حروبٌ تُنسي أخرى ومنطق الاصطفاف

حروبٌ تُنسي أخرى ومنطق الاصطفاف

22 يناير 2024
+ الخط -

حين اندلعت الحرب الصهيونية على غزّة، توجّهت أنظار العالم إلى هذا المستطيل الصغير الذي شغل الدنيا، قد لا يكون في مساحة حي في إحدى عواصم صنع القرار العالمي، ومع ذلك شدّ انتباه الجميع. تصدّرت هذه الحرب أخبار كبرى وسائل الإعلام وغدت موضوعاً رئيسياً في جلسات المنظمات الدولية ولقاءات الزعماء، وتحرّكت له شعوب العالم الحرّة وانتظمت مظاهراتٌ واحتجاجاتٌ قلّ نظيرها في السنوات الأخيرة. وانقسم العالم بين راسمي سياساته الرسميين وشعوبه إلى مخيّميْن كبيرين: مخيم مناصر لغزّة وللفلسطينيين عموما وآخر مناصر للكيان الصهيوني.
حين اندلعت هذه الحرب في الخريف الفارط كانت حروبٌ أخرى تجري بكل عبثها ودمارها ومآسيها. بعضُها حروب أهلية، في سورية واليمن والسودان، وثمّة حروبٌ تجري بين دول بينها حدود، ولعل أهمها الحرب الروسية الأوكرانية. ولكن من المهمّ لو ركّزنا التحليل على الحرب الأهلية السودانية التي تقابل فيها الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع، وعلى الحرب  الروسية الأوكرانية، لعدّة اعتبارات، لعل منها أنها أحدث الحروب التي اندلعت قبل الحرب الصهيونية على غزّة. تجري الحرب الأهلية السودانية بين الإخوة، فلا يفرق بينهم العرق أو الدين ... إلخ، رغم بعض التلوينات البسيطة التي لن تكون متغيّراً مهماً في شبكة القراءة. أما الحرب الروسية الأوكرانية فإنها تجري أيضاً بين شعبيْن يتقاسمان تقريبا الثقافة والتاريخ نفسيهما. ومع ذلك، نشبت بينهما هذه الحرب لاعتباراتٍ سياسية استراتيجية في المقام الأول، حرب ضروس لا شكّ أنها  تبحثُ عن مبرّرات تعود إلى عوامل ثقافية وتاريخية هشّة، غير أنها لا تصمُد كثيراً لو استحضرنا الاصطفافات التي وزّعت البلدين الى مخيمين كبيرين: مخيم الولايات المتحدة وأتباعها ومخيم روسيا وأتباعها.

بدت الحرب الأهلية السودانية، رغم كل الجرائم التي ارتُكبت حرباً بين الإخوة الأعداء

نسي العالم بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب على غزّة الحربين المذكورتين لأسباب عديدة، لعلّ أهمها ما حرّكته هذه الأخيرة من ذاكرة ومرجعيات وسجالات قديمة قد تعود إلى بدء آلاف السنين. على خلاف الحرب الصهيونية على غزّة، بدت الحرب الأهلية السودانية، رغم كل الجرائم التي ارتُكبت حرباً بين الإخوة الأعداء لا سُمك دلاليّاً فيها ولا عُمق تاريخياً قيمياً يؤصلها. سيكونُ من الطبع الانتصار إلى الحقّ وردع الظلم أينما كان، ولكن هذه الحرب ظلّت تجري وفق ميزان القوة والقدرة على التحالفات الداخلية والخارجية. سيكونُ من الصعب على الرأي العام الدولي تبيّن الأسباب الدقيقة التي دفعت الأخوين إلى التقابل في حربٍ رهيبةٍ عبثية تحرّكها المصالح المتقابلة، ولعل أهمها السيطرة على الثروات الطبيعية، فضلا عن احتكار صنع القرار في السودان، اشتبكت الخيوط حتى فقد الناس القدرة على الفرز. تجري الحرب حالياً بكل هديرها القاتل. لم تتوقف آلة القتل في هذا الفريق أو ذاك، رغم أن السياق الحالي يشير إلى تراجع قدرة الجيش على المواجهة وتمدّد قوات الدعم السريع. وتوضح التقارير الصادرة أخيرا عن الأمم المتحدة عن حجم الجرائم التي ارتكبتها "الدعم السريع"، وهي التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين. ولكن يبدو أن حرص القوى المتنفذة في العالم التي تقف وراء هدا المخيم أو ذاك غير جدّية في محاكمة هذه المليشيات أمام محكمة الجنايات الدولية، على خلاف أطراف أخرى سودانية سبق أن أحيلت بالتهم نفسها وفي الحروب الأهلية نفسها.

وحدها الحرب الصهيونية على غزّة اخترقت الجغرافيا السياسية والانتماءات الدينية

أما الحرب الأخرى التي تجري أيضا بين "الإخوة الأعداء" أيضا فهي الروسية الأوكرانية التي صبت جهنم دمارها الوحشي على ملايين المدنيين، خصوصا من أوكرانيا، ما دفع بعضهم إلى اللجوء، فضلا عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى... لا يمكن أن ننسى في كل هذا الدمار الكبير الذي لحق بالبنى التحتية لكل البلدين، وإن بأشكال متفاوتة. بدا الاصطفاف في هذه الحرب واضحاً أيضاً بين المخيّمين، ولكن لاعتبارات أيديولوجية سياسية، فبعضٌ ممن وقف وراء أوكرانيا يريد لجم جنون العظمة الذي أصاب الرئيس الروسي بوتين الذي حرص على استعادة مجد الإمبراطورية الروسية، فيتصرّف كإمبراطور  روسي صغير غير راض بما منحته جغرافيا القرن الواحد والعشرين من أرضٍ ونفوذ. أما من ساند روسيا فيرى في بوتين، كما يقدّم نفسه، ثائراً على القطبية الواحدة التي منحت الولايات المتحدة كل هذا النفوذ لتحكم العالم. لذا، وقوفهم مع روسيا هو تحصينٌ للجدار الذي يصدّ الهيمنة الأميركية ويقف عقبة في وجه تمدّدها.
وحدها الحرب الصهيونية على غزّة التي اخترقت الجغرافيا السياسية والانتماءات الدينية وتجاوزت الارتهان إلى قواعد اللعبة الاستراتيجية، ثم عمق تاريخي وقيمي أعادتنا إليه هذه الحرب، ولذلك استطاعت أن تنسينا تلك الحروب حينما وزّعتنا إلى مخيّمات عديدة: مخيّمي المقاومة والاستسلام، مخيمي القيم الإنسانية النبيلة وقيم التوحّش المخيف .. مخيّمي الحق والباطل. الحدود غير واضحة لبعضهم، ملتبسة أحيانا. لقد اشتغلت آلاتٌ رهيبةٌ خلال عقود من أجل تلبيس النبيل من القيم بالوضيع منها حتى غدت المقاومة إرهابا، وغدا التمسّك بالأرض والهوية رجعية وتخلّفا ... ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أن كل آلة الدعاية  تسعى إلى تصوير الفلسطينيين في معركتهم هذه على نبلها معركة الظلام مع النور. 
حين تقاضي أفريقيا الجنوبية (السوداء وذات الأغلبية البروتستانتية) الكيان الصهيوني، أو تستعدّ المكسيك وتشيلي في قارّة بعيدة جدا عن رقعة الحرب لمحاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية، فذلك برهان ساطع على أن الاصطفاف هذه المرّة لم يكن إلا على قاعدة المعايير الأخلاقية والصفاء القيمي للحقّ والنبل والإنسانية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.