المجلس الانتقالي في شبوة .. التمكين والتحدّيات

المجلس الانتقالي في شبوة .. التمكين والتحدّيات

11 فبراير 2022
+ الخط -

تتغيّر خريطة سيطرة فرقاء الصراع في جنوب اليمن تبعاً لأجندات المتدخلين، إذ تدير القوى المتدخلة الصراع بين وكلائها من خلال تصعيد كياناتٍ موالية لها، وإزاحة كيانات موالية لحلفائها أو لأطرافٍ إقليميةٍ أخرى، ثم دفعهما إلى الاقتتال، بحيث أفضت دورات الصراع المتعاقبة إلى تحديد مناطق سيطرة كل طرف، وشرعنت القوى المتدخلة لهذه التموضعات وفق صيغةٍ سياسيةٍ لتقاسم السلطة بين المتصارعين، بحيث استقرّت مناطق سيطرة كل طرف إلى حد ما خلال العامين الأخيرين، إلا أن إرادة المتدخّلين، أخيرا، اتجهت إلى تغيير خريطة السيطرة في الساحة الجنوبية، وذلك من مدينة شبوة، وإن جاء تحت مظلة حرب التحالف العربي ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران، بيد أن المحصلة هي تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات من حكم شبوة على حساب تقليص نفوذ السلطة الشرعية، سواء حكم بطريقة مباشرة أو باستنساخ نموذج عدن.

يكشف السياقان، السياسي والعسكري، لتشكل المجلس الانتقالي الجنوبي، وتمكينه من السلطة، أدوار المتدخلين الإقليميين في تخليق وكلائهم، فقد دفعت الاستراتيجة السعودية - الإماراتية خلال سنوات الحرب بتنمية المجلس، وتحويله من كيان سياسي هامشي يمتلك قوة عسكرية إلى طرف سياسي معترف به بموجب "اتفاق الرياض"، وشريك للسلطة الشرعية في حكومة المناصفة. ومن مدينة عدن، حيث استطاع المجلس الانتقالي تثبيت سلطته والحكم كقوة موازية للدولة، مروراً بمدينة الضالع، معقله الجغرافي، إلى جزيرة سقطرى، عزّز المجلس سلطته تدريجيا، بيد أن نفوذه السياسي في مناطق الجنوب الأخرى، خصوصا في مدينتي شبوة وحضرموت أغنى مدن الجنوب، ظل متزعزعاً، على الرغم من توظيفه العداء لحزب التجمع اليمني للإصلاح، أكبر الأحزاب المنضوية في السلطة الشرعية، لتغيير المعادلة السياسية. وخلافاً لمدينة حضرموت، حيث لم يحسم الصراع على السلطة، بدت شبوة الطريق الأسهل بالنسبة للسعودية لتمكين وكيل حليفها الإقليمي في اليمن، وذلك بفرض مرشح المجلس الانتقالي الشيخ عوض محمد عبد الله العولقي محافظاً لشبوة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تبعه ترتيب المعادلة العسكرية لتثبيت سلطته، إذ نظّمت السعودية عملية نقل السلطة العسكرية من القوات التابعة للرئيس عبد ربه منصور هادي إلى قوة موالية للانتقالي، حيث سلمت مطار عتق لقوات النخبة "الشبوانية" في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي. وبدخولها المطار بعد أكثر من أربعة أعوام على انحسابها إثر هزيمتها على يد القوات الموالية للرئيس هادي في دورة الاقتتال عام 2019، ضمن المجلس الانتقالي قوة عسكرية مساندة، إلا أن سيطرة جماعة الحوثي على ثلاث مديريات من شبوة تهديد استلزم دفعه بعيداً، وإنْ بأيد أخرى.

لا يمكن بأي حال الفصل بين حسم السلطة في مدينة شبوة ومعارك تحريرها، سواء في تزامنها أو ترابط نتائجهما 

لا يمكن بأي حال الفصل بين حسم السلطة في مدينة شبوة ومعارك تحريرها، سواء في تزامنها أو ترابط نتائجها، إذ كشفت سياقات تحرير شبوة قدرة الحلفاء على إدارة المعارك العسكرية بالاتجاه الذي يحقق أهدافهم السياسية، وذلك بتحريكهم ألوية العمالقة، الورقة العسكرية الرابحة، من جبهة الساحل الغربي إلى جبهات شبوة، بعد ترتيب المعادلة السياسية لصالح المجلس الانتقالي، مقابل تحييدها في معارك العام الماضي، حيث تمكّنت ألوية العمالقة من دحر مقاتلي جماعة الحوثي من مديريات بيحان وعسيلان والعين في فترة قصيرة، ومن ثم فرضت نتائج تحرير مدينة شبوة واقعاً جديداً، فإضافة إلى المكاسب السياسية لنجاح معركة "إعصار الجنوب" وتصاعد شعبية الانتقالي كما أراد حلفاؤه، وإنْ لم يكن القوة المحاربة على الأرض، فإن تحرير مدينة شبوة مكّن المجلس من استكمال سيطرته على المدينة، وإنْ كان الوضع العسكري لا يزال هشاً، حيث يخوض مقاتلو الجماعة معارك يومية لاختراق جبهات شبوة، بما في ذلك تكثيف هجماتهم الصاروخية على معسكرات ألوية العمالقة، إلا أن المجلس الانتقالي ضمن تمدّد نفوذه إلى نطاق جغرافي يتجاوز مناطق سيطرته السابقة. وبذلك، يكون حكم شبوة خطوة جديدة في سياق استكمال سيطرته على مناطق جنوب اليمن. ومن جهة أخرى، تحتل مدينة شبوة أهمية استراتيجية متعددة، فإضافة إلى موقعها الجغرافي المتاخم لمناطق الثروات النفطية، سواء حضرموت أو مأرب، الأمر الذي يجعل المجلس الانتقالي طرفا مؤثرا في معادلة الصراع في المدينتين، فإن حكم المجلس شبوة، المدينة الغنية بالنفط والغاز، يشكل مكسباً سياسياً واقتصادياً مهماً له ولحليفه الإماراتي، إذ يمكّنه من الإشراف على إدارة موارد المدينة إلى حد كبير، وبالتالي فرض شروطه على الشرعية، إلى جانب أهمية مطار عتق الذي يمنح سلطة شبوة قدرا من الاستقلالية والإشراف على رحلاته بعيداً عن الشرعية، حيث استقبل المطار، في الثامن من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، طائرة إماراتية، في أول رحلة بعد أكثر من ثماني سنوات على إغلاقه، فضلاً على أن عودة قوات النخبة الشبوانية إلى مواقعها يمنح المجلس نقطة تفوّق على خصومه ومنافسيه.

تتمحور أهداف المجلس الانتقالي في انفصال جنوب اليمن عن شماله وإقامة سلطة جنوبية بقيادته

في كل الحالات، حكم شبوة، ومن ثم تحريرها، تحوّل استراتيجي ضمن للمجلس الانتقالي توسيع خريطة نفوذه، بما في ذلك المكاسب المتعدّدة، وإن في سياق وهب الغنائم من الحلفاء، غير أن الاختبار الحقيقي هو كيفية إدارة شبوة. ومع أن إدارة مجتمع منقسم سياسياً واجتماعياً يستلزم سلطة ذات كفاءة تعمل على تجفيف منابع الصراع، لا إدارته، وباعتبار المجلس الانتقالي طرفا في الصراع المحلي، وإن فُرض وفق أجندات المتدخلين، واتفاق الرياض، فإنه لم يأت كسلطة توافقات محلية، ما يجعله محكوماً بنتائج قِسريتها، على أنه، ومع تحييد دوافع تمكين المجلس ونتائجه المستقبلية على المدينة، فإن الخيارات التي قد يلجأ إليها لن تخرج عن احتمالين: الأول، إعادة تصدير نموذج عدن، وذلك بتقييد سلطة المحافظ، وتحويله إلى واجهة سياسية فقط، بينما يدير المجلس الانتقالي المدينة، وإنْ بوصفه سلطة ظل للشرعية، وذلك لتجنب تحمل تبعات فشله، بيد أن هذا النموذج، وإن لم يكن مُكلفاً في مدينة عدن، بالنسبة للمجلس على الأقل، فإن تصديره إلى شبوة سيُنتج حالة فراغ وفوضى. الاحتمال الثاني، الحكم بطريقة مباشرة، غير أن الوضع الاقتصادي لشبوة يجعل ذلك، ربما، مستبعداً في الوقت الحالي، وإن كان مرهوناً بسياسة المتدخلين في المقام الأول. وأياً كان خيار الانتقالي في إدارة شبوة، تظل الورقة الأمنية المعيار لتقييم تجربته، ومن ثم قدرته على تجاوز مرحلة المليشاوية، أو على الأقل التصرّف بوصفه سلطة مسؤولة، خصوصا بالنظر إلى تجربته في عدن، واعتماده على فصائل مسلحة تسببت بتدهور الوضع الأمني ونكّلت بالمواطنين، وإن بدا أن لا منافس للنخبة الشبوانية، فيما يشكّل تطبيع الحياة في المدينة تحدّيا آخر للاتنتقالي، وقبلها الإيفاء بالتزاماته حيال المواطنين، أي تحسين ظروفهم المعيشية وتوفير الخدمات، على أن أخطر التحدّيات بالنسبة للانتقالي في مدينة شبوة، هو التحدّي السياسي، وذلك لتعدّد القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة وتعارض مشاريعها، فمن جهةٍ، تتسيد القوى القبلية المشهد المحلي، حيث يعيق انقسامها وصراعاتها البينية فرص نقل المدينة من مرحلة الصراع. ومع اعتماد المجلس على ورقة القبيلة ونسج تحالفات قبلية في أثناء صراعه مع سلطة المحافظ السابق محمد صالح بن عديو، فإن تحوّله إلى سلطة، مباشرة أو غير مباشرة، تفرض عليه التخلي عن تحالفاته القبلية وتجاوز تحيزاته السياسية. إلى جانب المعطى القبلي، ينقسم المشهد السياسي المحلي بين قوتين رئيسيتين، المجلس الانتقالي وحزب الإصلاح، على أن المجلس أصبح هو السلطة، ومن ثم عليه التخلي عن دور المعارضة، ووقف الانجرار إلى منطق العدائية والصدامية مع القوى المعارضة له، فيما يمثل تنامي حضور حزب المؤتمر الشعبي العام، جناح الرئيس السابق علي عبد الله صالح، تهديداً لنفوذ المجلس. فعلى الرغم من أنهما قوتان مدعومتان من الإمارات، إلى جانب تقاطع أجنداتهما السياسية في عدد من القضايا، أهمها العداء لحزب الإصلاح، فإن تنافسهما على القاعدة الاجتماعية القبلية في شبوة، وأيضاً السياسية، يجعل كل طرف متوجساً من الآخر، إذ يحاول الانتقالي الفكاك من أسر التابع السياسي، غير أنه وإن بدا من الصعب عليه تجنب انكشافه في شبوة، وعدم تنمية خصوم جدد، فإن تهديدا أكبر يأتي من قوة مقاتلة أكثر فاعلية وشعبية.

راكمت ألوية العمالقة المدعومة إماراتياً رصيدها العسكري خلال سنوات الحرب كقوة مقاتلة في جبهات القتال ضد جماعة الحوثي، بالإضافة إلى عدم انخراطها في الصراعات البينية التي شهدتها المناطق المحرّرة، بحيث اكتسبت صفة الحياد في واقع سياسي وفصائلي يحكمه الاستقطاب، الأمر الذي جعلها قوةً محايدةً تدخلت لفض النزاع في دورات الصراع، سواء بين الشرعية والمجلس الانتقالي في مدينتي عدن وأبين، أو بين حزب الإصلاح وجماعة "أبو العباس" في تعز، على أن تحرير ألوية العمالقة مدينة شبوة صدّرها قوة عسكرية مثالية في الحرب ضد جماعة الحوثي، وصعد من رأسمالها السياسي. وإذا كان تحرير شبوة صبّ في صالح المجلس الانتقالي لا في صالحها كما تفترض أجندات المتدخلين، لأنها قوةٌ لا تبحث عن استحقاق سياسي حتى الآن على الأقل، فإن المجلس الانتقالي يدرك، أكثر من غيره، أن منحه حكم شبوة من دون تحريرها من قبضة الحوثي كان سيفرض عليه عبئاً عسكرياً في مواجهة مقاتلي الجماعة، وهي مهمةٌ شاقة لا يبرع بها المجلس، وهو الدور الذي اضطلعت به ألوية العمالقة التي استكملت تحرير شبوة، وهي من يخوض معارك لتأمينها، إلا أن المجلس، وإن انحنى لصنّاع النصر تحت ضرورة الخضوع للمرحلة، فإن اختلاف أجنداتهما السياسية المعلنة، حتى وإن كان الأب الإقليمي واحداً، يجعلهما طرفي نقيض، إذ تتمحور أهداف المجلس الانتقالي في انفصال جنوب اليمن عن شماله وإقامة سلطة جنوبية بقيادته. في المقابل، تحتكم ألوية العمالقة، ومعظمها من الجماعة السلفية، لمبدأ الخضوع لولي الأمر، باعتباره الرئيس عبد ربه منصور هادي في هذه المرحلة، ودول التحالف. ومن جهة أخرى، وبالنظر إلى مسارات علاقة المجلس الانتقالي وألويته العسكرية بألوية العمالقة في مدينة عدن ولحج مثلاً، حيث خاضت قوات الطرفين صراعاتٍ متقطعةً أسفرت عن قتلى، فإن المجلس، وإن قبل ببقائها لقتال جماعة الحوثي وتأمين شبوة في الوقت الحالي، بما في ذلك تموضع بعض ألوية العمالقة في مدينة عتق، فإن تلاشي هذه الأسباب في المستقبل قد يشعل فتيل الصراع بينهما، في حال لم تنسحب ألوية العمالقة.