الأقصى واقتحام بن غفير ... تهشيم المرجعيات

الأقصى واقتحام بن غفير ... تهشيم المرجعيات

29 يوليو 2023
+ الخط -

بات واضحًا نهجُ الاحتلال الإسرائيلي، وغايتُه، تُجاه المسجد الأقصى، وسائر الأراضي المحتلَّة في الضفة الغربية والقدس، وهو السير بخطواتٍ حثيثةٍ نحو حسم الصراع، كما ترغب دولة الاحتلال، أو اليمين المتطرِّف العنصري فيها. وفي هذا السياق، يأتي اقتحام وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، أخيرا، وليس الأخِير كما يرجَّح، المسجد الأقصى، في ذكرى ما يسمَّى خراب الهيكل، معلنًا، من داخل ساحات المسجد، موقفًا، أراده واضحًا، و"دينيَّ المرجعية" "هذا المكان هو الأهمّ لشعب إسرائيل، وإليه يجب أن نعود، ونظهر سيادتنا عليه"، هذا بالتوازي مع تصريح وزير تطوير النقب والجليل الإسرائيلي، يتسحاق فاسرلاف الذي أشار إلى أن هذا المكان (الأقصى) هو الهيكل، وأنه "يصلِّي من أجل إعادة بناء الهيكل". وقد قالت دائرة الأوقاف الإسلامية إنَّ قرابة 2140 مستوطنًا اقتحموا المسجد الأقصى المبارك في ذلك اليوم، وإنَّ عددًا من المقتحمين أدَّوْا طقوسًا تلمودية في باحات المسجد. وذلك كله بدعم سياسي من رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو.

يقوم نهج الاحتلال تُجاه المسجد الأقصى على اقتحامات متكرِّرة ومتسارعة ومتصاعدة؛ متسارعة في عددها، وتقارُبها الزماني، ومتصاعدة في تمثيلها شخصيات سياسية ودينية، وفي زيادة أعداد المقتحمين، حتى قيامهم بطقوس دينية، داخل باحات الأقصى.

الفكرة الجوهرية في هذا المشهد وخلفيَّاته أنَّ قادة الاحتلال، مِن رئيس الحكومة، نتنياهو، ومَن هم على يمينه، لم يعودوا يُخفون إسقاط المرجعيات الدولية، وإحلال المرجعيات الدينية الخاصة بهم، ووَفْق تصورّاتهم، فالعالم، ممثَّلًا في الأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، نصَّت، في أكتوبر/ تشرين أول، 2016، على قرار اعتبَرَ المسجد الأقصى أحد المقدَّسات الإسلامية، بدون ذكر وجود أيِّ علاقة تاريخية بين اليهود والمسجد، ومستنكرة اقتحامَه المتكرِّر من بعض المتطرِّفين الإسرائيليين، ومن الجيش الإسرائيلي.

ثمّة موقف أميركي يسمح، فعليًّا، للاحتلال وقادته، (من دون روادع، أو عقوبات، أو محاسبة) بابتلاع الأرض والمقدَّسات، وقبلها ابتلاع المرجعيات والمواثيق

وقبل هذا القرار بعقود، أصدرت اللجنة الدولية تقريرها الذي قدَّمته لعصبة الأمم عام 1930، واختتمته بأنَّ "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم الحقُّ العينيُّ فيه؛ لكونه يؤلِّف جزءًا لا يتجزَّأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف الإسلامي". حتى إن بريطانيا الدولة المنتدَبة كانت أقرّت بذلك، في الكتاب الأبيض الثاني، الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 19/11/1928 للتأكيد على الملكية الإسلامية لحائط البراق في القدس، مفنّدًا ادّعاءات الاحتلال أنه جزءٌ من الهيكل، ومؤكّدًا كونه معلمًا بارزًا من معالم المسجد الأقصى.

ويقوم الموقف الأميركي الرسمي والمعلَن على الحفاظ على وضع المسجد الأقصى القائم، وأكَّدت واشنطن هذا الموقف، تعقيبًا على الاقتحام أخيرا، بأن "الولايات المتحدة تقف بحزم مع الحفاظ على الوضع التاريخي القائم، فيما يتعلق بالأماكن المقدَّسة في القدس". وكذا دول أوروبية مهمة، كبريطانيا، ما حدث، وأعربت عن قلقها من "الزيارة الاستفزازية واللغة التحريضية التي استخدمها وزراء بحكومة الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى، وأكّدت دعمها الوضع التاريخي القائم "الستاتيكو" في القدس، (وهو الوضع الذي ساد الأماكن المقدسة في القدس، منذ الفترة العثمانية، وخلال الانتداب البريطاني، ثم الحكم الأردني، حتى الاحتلال)، ولدور الأردن في الوصاية "على الأماكن المقدَّسة".

لكن هذا الموقف الأميركي يبقى تحت الاختبار الفعلي، أنْ يطرأ عليه تغيُّر غير معلن، يُفهَم من تراخي الإدارة الأميركية تُجاه استهدافه الفعلي من الاحتلال. ولهذه المخاوف ما يشفع لها في "صفقة القرن" التي تبنّاها الرئيس السابق دونالد ترامب، ولم تثبت إدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، بما يكفي، أنها تعمل لعَكْسِها. تأتي المنطلقات النظرية التأسيسية للخطَّة (وفق دراسة وليد سالم/ القدس في "صفقة القرن": تحليل وبدائل") على "قيام الملك سليمان ببناء الهيكل الأول، والذي أودع داخله الوصايا العشر. وبعد تدمير الهيكل مرَّتين، آخرهما في العام 70 ميلادية، راح اليهود حسب الوثيقة/ الصفقة، يحيون ذكرى تدميره في التاسع من أغسطس/ آب من كل عام، مردِّدين عبارة "العام القادم في أورشليم". ووفق الدراسة، وبناء على نصوص الصفقة:" تثني الصفقة على دور إسرائيل الإيجابي "حارسا للأماكن المقدَّسة"، كما سبق ذكره، وفيما تقول ببقاء الوضع القائم في المسجد الأقصى وما تسمِّيه "حائط المبكى" (حائط البراق، الذي كان قبل العام 1948 مكانًا للصلاة لليهود والفلسطينيين، وليس لليهود حصرًا كما عليه الحال اليوم)، فإنها في المقابل تنصُّ على أن "الناس من جميع الأديان لهم حقُّ الصلاة في الحرم الشريف/ جبل الهيكل بطريقة تحترم كلية أديانهم".

اقتحام بن غفير المسجد الأقصى هو الثالث، بعد أن صار وزيرًا، ما يعني موقفًا رسميًّا يمثِّل حكومة نتنياهو، وتدعمه

وعلى العموم، هنا موقف أميركي يسمح، فعليًّا، للاحتلال وقادته، (من دون روادع، أو عقوبات، أو محاسبة) بابتلاع الأرض والمقدَّسات، وقبلها ابتلاع المرجعيات والمواثيق؛ ما يعني تعطيل تلك المرجعيات وتجاوزَها، وهو الأمر الذي لم تسمح به، واشنطن، أو تتهاون، حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، قبل ما يزيد عن سنة، وبدأت بمواجهة معها لا تعرف التراخي، هي حرب بالوكالة، أقرب إلى حافّة المواجهة المباشرة، والمفتوحة، حيث زوَّدت أوكرانيا، أخيرًا، بقنابل عنقودية، وهي المحظورة لدى دول عديدة، كما أعلنت عزمها تسليمها طائرات "إف "16، بعد استكمال التدريبات والصيانة.

اقتحام بن غفير المسجد الأقصى هو الثالث، بعد أن صار وزيرًا، ما يعني موقفًا رسميًّا يمثِّل حكومة نتنياهو، وتدعمه. وهذا يعني التنصُّل من الاتفاقات المتعلقة بالمسجد الأقصى، والوصاية الهاشمية، وإرساء وضع جديد، تقوم دولة الاحتلال وحدها، بتشكيله؛ تكريسًا لسيادتها الاحتلالية على المسجد الأقصى. ولتوقيت هذا الاقتحام دلالتُه أيضًا، إذ جاء بعد إنجاز القانون الذي يلغي "حجّة المعقولية"، أنْ تستخدمها ما تسمَّى المحكمة العليا، في إبطال قرارات حكومية، إذا رأت منافاتِها المعقولية؛ ما يعني تدشين سلطة أوسع للحكومة، ووزرائها، في الشؤون الداخلية، والأهم، في مخطَّطات الاحتلال والاستيطان والتهويد، لتنطلق على أسرع ما يمكن، وكما أن هذا الاقتحام مِن شأنه أن يعمل على صرف الأذهان والاهتمام عن الجبهة الداخلية المتأزِّمة؛ بما قد تنتجه مفاعيلُ هذا الاقتحام، من مزيد إشعالٍ للصراع؛ ما يعني تصغير الاعتبارات الديمقراطية، وخفض أصوات دُعاتها، فإنها تمثّل عودة الانخراط في أجندات ذات أهداف احتلالية، يراها أقطابُ اليمين العنصري المتهوّر سانحةً؛ دوليًّا، وعربيًّا، رسميًّا، حيث لا جهة قادرة، أو راغبة في وقف فعليٍّ لتلك التغييرات التي يحاول قدارة الاحتلال تكريسها.

وأخيرًا، سماح واشنطن الفعلي بإجهاز قادة الاحتلال على تلك المرجعيات الدولية المتعلِّقة بالمسجد الأقصى، وبمجمل قضايا الصراع، يُفترَض أنْ يجعلها تتوقَّع نشوءَ مرجعيات جديدة للصراع، لا تُرضيها، بالتأكيد.