أجسامهم رماد

أجسامهم رماد

12 ابريل 2024
+ الخط -

يتعايش آمر معسكر أوشفيتز النازي رودولف هوس بسلام مع مهام الإشراف على القتل في النهار والاهتمام بعائلته في المساء. تتعايش العائلة أيضا بانسجام مع عمليات التصفية الدموية في المعسكر المجاور، ومنه يتساقط رماد ضحايا المحرقة على زهور الحديقة من دون أن يحول ذلك دون تمتّع العائلة بعطرها. قال البريطاني اليهودي جوناثان غلازر، مخرج فيلم "منطقة الاهتمام" الذي حاز جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، إن الفيلم لا يتحدّث عن مجزرة حصلت في الماضي، بل عن استمرارية مرعبة بين الماضي والحاضر. تعرّض غلازر لانتقادات حادّة من شخصيات يهودية حملت على المخرج البريطاني مقارنته بين جرائم النازية في الماضي والإبادة المتواصلة في غزّة، وتلك مقارنة تعدّ خطّا أحمر في النقاش عن الإبادة، قد يعرّض قائلها لتهمة معاداة السامية، إلا أن أهمية الفيلم وشجاعة مخرجه في الربط المباشر بين الماضي والحاضر هما في مساءلة القرب من الجريمة والتعايش معها بسلام إلى حدّ نكرانها الكامل في الوعي، كما فعل آمر المعسكر النازي وعائلته، وكما يفعل اليوم عديدون منّا. ثمّة قتل مروّع يحصل في مكان ما، إلا أنه لا يعنينا، وقد يتحوّل الإصرار على رواية بعض ما يعرف من تفاصيله المروّعة أمراً مزعجاً، إذ قد يحول دون التمتّع بحياة طبيعية. وتشمل هذه اللامبالاة العامة التي تتعايش بسهولة مع القتل القتلة أنفسهم، وبعضهم يلتقط صوراً لجرائمه ليس من باب التوثيق (لا أحد يبحث عن أدلة تدين القتل) بل من باب التسلية والمرح.

قال غلازر إن شخصيات "منطقة الاهتمام" ليسوا وحوشا، بل مجرّد وصوليين طموحين غير قادرين أو راغبين في التفكير. قد يندرج هذا التوصيف على بطلة فيلم القارئ (ذا ريدر)، هانا شميتز، التي حوكمت بتهمة ارتكاب جرائم حرب لعملها حارسة في أحد معسكرات التصفية النازية. لدى سؤالها عن سبب امتناعها عن فتح أبواب السجن عندما شبّ حريقٌ قضى على السجينات داخله، ردّت ببساطة بأنها كانت "تنفذ الأوامر" في إدارة المعسكر، وأنه كان من شأن فتح أبواب السجن أن يعمّم الفوضى في المكان. هل فكّرت المجندة الإسرائيلية التي شاهدناها تلم الجثث وهي تدندن مستمتعة بأنها تنفذ الأوامر في قتل "الإرهابيين"، وأن الجثث المتكوّمة التي تلمها بالجرافة لدفنها في التراب ليست سوى أشياء يجب التخلص منها؟ هل اعتبر الجندي الذي حثّ كلبه على التلذّذ بجثة "الإرهابي" وصوّر المشهد أنه ينفّذ الأوامر بالانتقام من "الإرهابيين" عبر رمي جثثهم للكلاب؟ هل اعتبر جنود صورة سيلفي الدمار في غزّة أن عليهم أن يحتفلوا بإنجاز المهمة الملقاة على عاتقهم بالتخلّص من "الإرهاب" وكأنهم يلتقطون صورة تذكارية في نهاية دورة تدريبية؟

هل اعتبر جنود صورة سيلفي الدمار في غزّة أن عليهم أن يحتفلوا بإنجاز المهمة الملقاة على عاتقهم بالتخلّص من "الإرهاب" وكأنهم يلتقطون صورة تذكارية في نهاية دورة تدريبية؟

يبدو أن الجندي الذي تحدّث عن مهامّه في كبس زر آلة الذكاء الاصطناعي التي تتولى قتل لوائح المشبوهين بالتعامل مع حركة حماس، بحسب تصريحاته، يبدو أنه لا يشعر بشيء على الإطلاق. في تحقيق نشرته صحيفة الغارديان البريطانية نقلا عن موقع +972 الإسرائيلي الفلسطيني، قال المجنّد "استغرق فقط 20 ثانية لكل هدف في هذه المرحلة، وأنفذ عشرات الأهداف كل يوم. لا أقدّم أي جهد في العملية سوى الموافقة (على الهدف). ذلك يوفر علي وقتاً كثيرا" في مهمة القتل.

كان التحقيق نفسه قد كشف أن الجيش الإسرائيلي يستخدم برنامج للذكاء الاصطناعي (لافاندر) لقتل 37 ألف مشبوه بالتعامل مع "حماس" من دون أي مجهود بشري في القتل، كما في التحقق من هذه اللوائح. قتلٌ باردٌ تقوم به الآلة من دون أي سؤال يطرحه على نفسه البشري الذي يكبس زر القتل. أفادنا التقرير نفسه بأن برنامجا آخر أطلق عليه اسم "أين والدي" (where’s Daddy?) يتقصد قتل هؤلاء المشبوهين عندما يعودون إلى عائلاتهم للتأكّد من أن عائلاتهم ستقتل معهم.

تتطاير أشلاء ضحايا المقتلة الإسرائيلية رماداً في حدائق ضمائرنا

باتت جثث ضحايا الإبادة في غزّة مجرّد رماد يتساقط في مشهدية الدمار الرهيب. كم قتل حتى الآن؟ تقول الأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام إن 33 ألفا قتلوا في غزّة حتى كتابة هذه السطور. تكرّر معظم وسائل الإعلام الغربية أن الحصيلة مصدرها وزارة الصحة التي تسيطر عليها "حماس"، في إشارة هدفها المبطن التشكيك بصدقية هذه الأرقام وتغذية التحليلات المؤيدة للدعاية الإسرائيلية، ومفادها أن الأرقام مبالغ بها. بين الضحايا أكثر من 13 ألف طفل و8400 امرأة. بحسب المصدر نفسه، جرح أكثر من 75 ألف شخص في حين يعتبر ثمانية آلاف آخرون في عداد المفقودين. قتل 203 عمال إنسانيين على الأقل في غزّة، بينهم سبعة من العاملين في منظمّة المطبخ المركزي العالمي، الذين استهدفهم قصف إسرائيلي رغم العلامة الواضحة للمنظمّة على سيارة كانت تقلّهم. تحوّلت أعداد الضحايا، رغم بشاعتها، إلى مناسبة لتبرير اللامبالاة عبر التشكيك بحجم المقتلة وآليات احتساب الضحايا، وهو نقاشٌ لا يتوقف في الدعاية الإسرائيلية وبعض الإعلام رغم نشر مجلة لانست، الطبية الشهيرة، مقالين لأكاديميين ذائعي الصيت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي اعتبرا أن أعداد الضحايا في غزّة معقولة وواقعية، بل على الأرجح أكثر من المحتسبة.

لا تثير هذه الأرقام المرعبة حالة غضب عامّة تتجاوز صيحات تنديد منظمّات حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة التي تحوّلت إلى الصوت الحقيقي والوحيد للضحايا. لعل موجة الاستنكار التي رافقت القتل المتعمّد لسبعة من العاملين الإنسانيين في "المطبخ المركزي العالمي" تجسّد التفاوت في احتساب القيمة الإنسانية لمن تقتله آلة الإبادة الإسرائيلية. لم تذكر التقارير الغاضبة سائق الحافلة الفلسطيني الذي قتل في الاستهداف نفسه.

تتطاير أشلاء ضحايا المقتلة الإسرائيلية رمادا في حدائق ضمائرنا، في حين نواصل حياتنا وكأن إبادة لم تحصل. يوم عادي آخر (business as usual.)

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.