قبل أن تولد.. هواجس أُمّ لأزمنة الحرب

قبل أن تولد.. هواجس أُمّ لأزمنة الحرب

CFADE90B-5821-4C8B-9B3B-7BD856FDAFCD
هزار الحرك

صحافية سورية. عملت خلال فترة تزيد على 15 عامًا في إعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية، ودوبلاج أفلام الكرتون المصورة لقنوات متنوعة، ثم انتقلت إلى العمل الصحافي المكتوب، ونشرت مقالات عدة تتناول الواقع الاجتماعي والثقافي والفني في سورية، وبلدان المهجر. تؤمن بدور الثقافة والفن في تغيير الواقع المأساوي، وتحلم بسورية حرّة، خالية من كل صنوف الاستبداد.

04 يناير 2015
+ الخط -
عندما مرّرت لي المخرجة الفلسطينية، عزة الحسن، فيلمها الوثائقي "قبل أن تولد"، كانت الهواجس التي دفعتها لإنتاجه، قد أطبقت عليّ منذ فترة، لا كامرأة تنتظر مولوداً  جديداً، وهو الفعل الذي أقدمتُ عليه مرتين من قبل، وأضحى اليوم  ضرباً من الجنون لا أجرؤ على  تكراره، بل كأُمّ تدور الحرب داخل جغرافيتها، وطني، ما يعني أني سأتابع الفيلم لا كمتفرجة عادية، وإنما كإحدى شخصياته، الأُمّ التي كانت عزة، والتي تنتظر مولودها ليأتي وسط كلّ هذا.


"هذا هو الوطن.. مش كتير عظيم "، تخبر عزة ابنها كرم، القابع في أحشائها، في بدايات الفيلم، عن الوطن الذي سيحيا فيه، وقد اختارت لتلك الرسالة مشهداً من فيلم "3 سنتيمتر أقل" والذي صورته في فلسطين عام 2003، وتظهر فيه آثار الدمار وقد طال كلّ شيء، وصبية يلهون غير آبهين بالخراب المحيط بهم، وكأنّه جزء طبيعي من الحياة. تكمل عزة رسالتها لكن هذه المرة لنفسها، ربما تبريراً لما ستُقدم عليه مستقبلاً: "وهؤلاء ـ في إشارة إلى الصبية ـ هم محاولتنا للحفاظ على حياة طبيعية.. فمنعمل عيلة".

سبق رسالةَ عزة نقاشٌ مُشكك دار بينها وبين زوجها، حول مفهوم الأبوّة والأمومة وما يعنيانه، اختزلته عزة بالقرارات التي يتخذونها والتي ستحدد مسار حياة الطفل، بدءاً من اسمه إلى الهُوية التي سيحملها، فوضع عزة الاستثنائي كفلسطينية من الضفة، أعطاها الحق في منح ابنها هويتها، الحق الذي كانت سائر نساء العالم العربي محرومات منه، وقد رأت أن هذه المسألة هي ميزةٌ أخرى ستتمكن من منحها لابنها، في حين أنّ زوجها، وهو "أردنيّ الجنسية"، رأى أن الأمر يخلو من أي ميزة، وأن كلا الهويتين متساويتان في بؤسهما.

وهرباً من جواب بدا أنّ لا أحد يملكه، حاولت عزة أن تُلهي نفسها وتُلهينا بهواجس قد تخطر لأيّ امرأة تنتظر مولوداً، لكنها لم تخرج عن الشارع العربي، فدارت كاميرتها بين أمهات ونساء حوامل للحديث عن جنس المولود القادم، وكيف يمكن لشكل البطن أن يتنبأ به، ولم تفوت فرصة لقاء "مُطهّر" الأولاد لسؤاله عن العملية التي سيخضع لها كرم.

لكنّ عزة لم تُفلح في الهرب طويلاً، إذ أرغمتها ذاكرتها المشبعة بحيوات أطفال مواطنيها في فلسطين، على العودة إلى حيّز القلق، وهي التي كانت تطاردهم بكاميرتها لتوثّق واقعهم المرّ، والذي يبدو وكأنّه يمتد من الأزل إلى الأبد، غير أنّها هذه المرة، صارت هي نفسها هدفاً لعدستها: "أفكر دوماً بالأولاد الذين صوّرتهم زمان"، تنهي عزة جملتها لتنقلنا إلى فلسطين 2001 في مشاهد من فيلمها: "زمن للأخبار"، حيث صبية يصرخون وقد شهدوا للتوّ حريق منزل أحد الجيران، إثر سقوط قذيفة دبابة عليه، ثم مشاهد يتحدثون فيها عن صديقهم نزار الذي استشهد برصاصة "دم دم" المتفجرة، حوارت وتفاصيل تنضح بالفقد الموجع للأصحاب والحياة والأحلام والأمان، مشاعر حاولت مواجهتها بسياج من حديد صُلب سوّرت به أبواب ونوافذ منزلها: "هداك كان من الماضي.. وأنت يا بوبو هون.. على الضفة الثانية من النهر.. هون الدنيا أمان"، تخبر جنينها مستسلمةً لحلاوة هذا الإحساس.

لكن.. لم تلبث عزة طويلاً لتكشف لنا أنّ هذا الأمان لم يكن إلا وهماً خادعاً، وأنها أخطأت إذ ظنت أنّ ما يجري خارج شبابيك وأبواب بيتها المسيجة غير مهم، ففي مجتمع  يشترك فيه الجميع، الآباء والأجداد والأقارب والجيران والأصدقاء والأنظمة السياسية والمؤسسات التربوية والروحية، يشتركون جميعاً لا في تربية المخلوق القادم فحسب وإنما في تحديد الطريق الذي سيسلكه في حياته، سيغدو الإنجاب شأناً عاماً، والتمرد أشبه بالسير في حقل من الألغام.

وكوخز الإبر تخبرنا عزة وهي تنقلنا ما بين عدستي الواقع والذاكرة، أنّه كما الاحتلال يقبض على أحلام الفلسطينيين ويزهقها، فإن المجتمع المحافظ في العالم العربي يقبض على أحلام الأطفال ويروضها حتى لا تخرج عن طوعه، فتهدد كيانه. "هناك مجموعات فاسدة تحكمنا وتقرر وتفكر عنا ما هو الأفضل لنا "، يؤكد محمد متفائلاً بأن ثورات الربيع العربي وما تحمله من رياح تغيير ستمنح ابنه خيارات كان قد حُرم هو منها، تفاؤلٌ أرادت عزة إثباته عبر لقاءات أجرتها مع شباب حطّمت موجةُ الربيع العربي الأقفالَ التي وضعتها الأنظمة السياسية والاجتماعية على أفواههم وأرواحهم وعقولهم، الزمن الجميل بات ممكناً.. زمن كرم وأبناء جيله!

من ذاكرة لا تسكتين وواقع تتلبّسه الملائكة والشياطين، عقدت عزة قصتها. خيوط متشابكة من الآمال والآلام والمخاوف والأحزان ونفحات من فرح ربما سيكبر، ظلت القضية الجوهرية فيها "الهوية"، والتي لم تكن مجرد ورقة تحصل عليها من مؤسسة شرعية، وإنّما من كونها علاقة الإنسان بالمكان والزمان، والخيارات المعقدة في مجتمع لا يحاسب على الخيارات أصلاً قدر ما يحاسب على المصادفات، مصادفة أن تولد ذكراً أو أنثى، جميلاً أو قبيحاً، مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً.

في النهاية، حملت عزة ابنها إلى فلسطين، الطريق المؤدي إلى الوطن كان غارقاً في البؤس والفوضى والبشاعة وحرائق القاذورات، لم يكن طريقاً إلى الجنة، جلست وكرم على شرفة عالية، وقد اختارت له ولنا إطلالةً عادية، فلا بيارات للبرتقال، ولا بحر يغريك، ولا أصالة لمدينة عريقة، ولا خراب ومأساة، هو وطن ليس بالشأن العظيم.. سوى أننا دونه.. لا حيّز لنا في هذا العالم الفسيح.

ذات صلة

الصورة
آلانا حديد

منوعات

أسست ألانا حديد، الأخت الكبرى غير الشقيقة لعارضتي الأزياء الأميركيتين الشهيرتين من أصل فلسطيني جيجي وبيلا حديد، مؤسسة مستقلة لتوزيع وإنتاج وتمويل الأفلام.
الصورة

مجتمع

على ورقة بيضاء، ترسم الفلسطينية جنى سويدان (9 أعوام) علم فلسطين ومنزلها، الذي تحلم بالعودة إليه بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المستمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
الصورة

مجتمع

حذّرت منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (يونيسف)، الجمعة، من أنّ المعارك الدائرة في السودان منذ ثلاثة أسابيع تحصد أرواح أطفال "بأعداد كبيرة مرعبة"، مشيرة إلى تقارير تفيد بسقوط سبعة أطفال كلّ ساعة بين قتيل وجريح.
الصورة
 كارول سماحة"؟ (المكتب الإعلامي)

منوعات

ألبوم غنائي، يفترض أنه يضم 12 قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش، تصدره المغنية اللبنانية كارول سماحة. ثمة أسئلة كثيرة تُطرح عند إصدار مثل هذه الأعمال؛ أولها: هل بالإمكان أن تلقى الصدى الجماهيري المطلوب؟

المساهمون