رماد نشوان

رماد نشوان

03 سبتمبر 2017
إيف بِرجر / فرنسا
+ الخط -

مغلقاً عينيه الصغيرتين، دائرتين على دوائر، أخذ نفساً عميقاً، وزفر لاعناً الصباح. لم يكن متشائماً، وما لاذ بالتفاؤل، فطباعه أقرب للطواعية، التي تجعله ليناً، والصدمات المتوقعة تضحكه، فالخشية صفةٌ حزينة، وظلٌّ مديد ملازم، لمن هو وحيدٌ. ها يحدّث نفسه، بذلك يحصنها ويسيجها، إذ هو أيضاً، يحسب نفسه ثمرة، أو شيئاً شبيهاً. يساعده الكلام الصامت، الحيّ الكتوم الخجل، يحوله إلى شخصين، أحياناً إلى ثلاثة، فالوحدة تزبدُ وتخصبُ.

ليس الصباح عدوّاً، إنه طفل النهار، خبزه الأول دائماً. "لكن التجريد خطرٌ"، تنبَّهَ فاتحاً عينيه، مفكّراً باللحم النيء، مع بيض مقلي. سرت الرائحة المشتهاة، وطَفَت الألوان المحرّمة، أخضرُ أحمرُ أصفرُ، الأبيضُ جوهرة العلم، متى يُرفع الحلمُ، فطور رائع جريء! هو ذا التشخيص، إذن الحسيّ أَوْلى، دائماً لحم الحلم، ذو مذاقٌ أصيلٌ.

"الصباح مرة أخرى"، كرّر غاسلاً وجهه. تغرغر منعشاً فمه: "هنا كانت البداية، الفم- النور- الكلمة". لكننا أبناء الظلام، أسرّ لنفسه مستدركاً، ومضى إلى المطبخ، لقّم عينَ الغاز، وفمه يبحث عنها، متلهفاً السيجارة الأولى. استقبلته الشرفة كالعادة، وارتفع الدخان فوقه، مرارة لذيذة بحلقه، من أثر القهوة، فيما السيجارة تصغر، وضوء الصباح يمتد.

"كنَّ كثيراتٍ مُتعِبات"، يتذكرهنّ الآن منتشياً، واحدةً إثر أخرى، لكن الإحصاءَ بخسٌ. مخيفان التجريدُ والإحصاءُ. عالم اليوم رقميٌّ، هذا ما يُقال، لكنه لا يفهمه، أو ربما ينكره، يرفضه ويستقبحه ويخشاه.

حسناً الشاي الآن، والجريدة بين الأصابع، تلامسُ العنوانَ العريض، "فيتو روسي صيني". انتهى الخبر المتوقع. البدينة بين الأحضان، عينان خضراوان تلمعان، أم القصيرة تتمنّع، جادة رصينة مُنهَكة، أم الشبقة تضحك، تسخر وتنصح وتسأم، أم السمراء الطويلة، أمُّ الاختيارات المحبطة، أم المريضة الفاتنة، كيف يغري الألم، كيف يُشفي المرضُ، أم المتزوجة المستقلة، الهاربة من الجحيم، أم الشقراء الممتلئة، حنينُها سرُّها نضجُها؟
كلُّهُنّ لسنَ كلَّهُنّ.

ما يملأ الوقت؟ الماءُ، الهواءُ، الفناءُ؟ كل شيء مدوّخ، مربكٌ عصيٌّ حاصرٌ. من جاء بالحياد؟ كيف، لمَ، هل؟ متى تبدأ الأسئلة؟

النعنع في مكانه، الأليفُ يبقى وينمو، رويداً رويداً يكونُ، لكنه الاعتناءُ المثابر، السببُ الخفيُّ الظاهرُ. هيّا إلى الحمّام، بعد الشاي والقهوة، خطُّ البول جميلٌ، والحوض أبيضُ نظيفٌ. كم مرةً فعلتَها، يا رجلُ كفى، معقول عشر مرات، في اليوم الواحد! أقسمُ بالله أجل، كنتُ شاباً حينها. لا لا مستحيل. بلى بلى فعلتُها. الأفعال الحيوانية مضحكة، هل هي فقط، ما رأيك بالإنسانية؟

ضحكٌ أم لؤمٌ، سخريةٌ أم رفضٌ، فرحٌ أم حسدٌ؟ حزنٌ كآبةٌ نفورٌ، جموحٌ أم ضيقٌ؟ ضعفٌ أم رغبة؟

سبينوزا ما يحتاجه، أم ربما أبيقور، المعرّي أم النفري، أم شذرات نيتشه، أم الجاحظ السارد اللاهي، أم سائق التكسي، إذ قال له، مختصراً ذاك النهار، على حين غرة، هي القوة وحسبُ، ناصحاً طاوياً الأمر، كلّه كلّه كلّه، ضامّاً القوانين للهراء، بصفعة فمٍ واحدة!

خسرَ السيرَ السعيد، المشيَ التسكع اللامبالاة، التفرجَ على العالم. هادئاً يستعيدُ الماضي، ربما يحسبه غنيّاً. الحقيقة إنه مستعجل، يحرق الزمن الحارق، هذا الرماد النشوان.

* شاعر سوري

المساهمون