الغناء لفلسطين: درب الآلام معبّد على مقام النهاوند

الغناء لفلسطين: درب الآلام معبّد على مقام النهاوند

27 أكتوبر 2023
ما زال العدوان على غزة مستمرّاً (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
+ الخط -

75 عاماً مرت على نكبة 1948، التي قامت على إثرها دولة إسرائيل، بدعم بريطاني سترث دعائم بقائه أميركا. وما زال الحق المسلوب يسطو عليه خطاب دولي، تجلى بأقسى مظاهره في حملة الإبادة الإسرائيلية على غزة اليوم. ومنذ النكبة، روت الأغاني العربية مأساة فلسطين.

مع اندلاع المعارك في فلسطين عام 1948، قررت عائلات فلسطينية النزوح إلى البلدان المجاورة، حتى انتهاء الحرب. لم يتخيلوا أن ما أخذوه معهم من أرضهم، سيكون مجرد ذكريات عن بيوت لن يعودوا إليها. بينما استولت عائلات يهودية على بيوتهم، بعد انتصار العصابات الصهيونية، المدعومة من بريطانيا، على الجيوش العربية.

وبدأ عصر المنفى والتهجير القسري لـ800 ألف فلسطيني، هم نصف الشعب. بخلاف المجازر التي ارتكبتها عصابات الهاغانا وبقية المليشيات الصهيونية. فكانت واحدة من أعظم مآسي الإنسان؛ إذ شملت مجازر بحق الفلسطينيين، وتدميرا ممنهجا للقرى والأحياء.

وفي المنفى، تشكلت الذاكرة بنسيج الألم، وحلم بالعودة لوطن مسلوب. ستصفه بعد ثماني سنوات من النكبة، أغنية فيروز "سنرجع يوماً" بأبلغ وصف. لحن الأغنية الأخوان رحباني على سُلم الماجور من درجة "لا". وكانت شعراً ولحناً بمثابة سِفر العودة، بصورتها المقابلة لسفر الخروج القائم على مزاعم الأرض الموعودة. وهكذا، جاء لحنها استعارة دينية من ترانيم الكنيسة، صبغ عليها شكلاً من الحداثة.

وبخلاف الاستهلالة القصيرة لضربة بيانو، يغرد صوت فيروز واثقاً: "سنرجع يوماً إلى حيّنا". فيما تلعب الجوقة دور الترتيل الخفيض بتأكيد "سنرجع". تُرى، هل كانت رمزية لتسابيح الملائكة؟ نفس الجوقة تعزز الوعد وصفاً "هناك عند التلال تلال". غير أن المسحة الترنيمية تزدهر إلى قوة النشيد، بتحول من ماجور "لا" إلى ماجور "دو"، بتشديد الضربات الموسيقية التي تفضي إلى غناء لا يتخلى عن الترنيم. لكنه يُجسد حتمية الوعد، لتغني فيروز "سنرجع خبرني العندليب".

كما أن الغناء ينتقل من الرأس إلى الصدر، بإضفاء مسحة شرقية طفيفة على السُلم الموسيقي، في ترديد شطر "بأن البلابل لما تزل تغني بأشعارنا"، لكن بلحن آخر، وما في ذلك من شحنة عاطفية، كما لو كان تأكيداً بأن الأرض ما زالت فلسطينية وعربية. ثم ذلك التعبير الفاتن لإضفاء سمة الهمس عند ترديد "تعال"، فهو صدى لصوت من نبع بعيد، غايته تعميق مسلمة الرجوع.

مع تصاعد الخطاب القومي، وفي الوقت الذي دخلت فيه الجيوش العربية جبهة الصراع، ظهرت أغنية "أخي جاوز الظالمون المدى" لمحمد عبد الوهاب، من كلمات علي محمود طه، مفتتحة سلسلة أغانٍ لم تتوقف عن فلسطين.

ومع أن الأغنية تمثّل دعوةً إلى القتال، فإن مزاجها العام لوّنته فاجعة سقوط فلسطين "مهد الأبوة والسؤددا". لحن عبد الوهاب الأغنية على مقام الراست الشرقي. اتسمت بمقدمة موسيقية رفيعة، كانت مزيجاً من تصوير جسامة الحدث عبر مطلع مُرسل، سيستعيده تمهيداً للغناء، وآخر مُوقع يحمل روح النشيد بوقار وجلال.

حرص المُلحن على أن يُعبر عن روح الكلمات المتسمة بجزالة شعرية كلاسيكية، بطابع شرقي. فكانت امتداداً لبعض روائعه مثل "الكرنك"، و"الجندول"، و"كليوباترا". استُهلّ العمل بغناء مُرسل على مقام الراست، يمتد لأربعة أبيات. يعقبه تحول لصيغة النشيد، يميزه إيقاع رباعي، على مقام السيكاه. وكأنه يحاول تصوير روح الفروسية العربية في مجدها الغابر، من خلال مقام شرقي نادر الاستخدام. وهو ما يتضح في تكراره موسيقياً بصوت الناي المصحوب بوتريات خفيضة.

موسيقى
التحديثات الحية

كانت الأغنية، أيضاً، تعبيراً عن تصاعد الخطاب القومي، الذي سيعرفه عقدا الخمسينيات والستينيات. مع تضمينه جذور الغناء الديني، فالراست تعبير عن روح الأذان.

هكذا، ستمضي 75 عاماً من الغناء لقضية فلسطين، سيبدأ فيه ما أصبح يُسمّى بـ"الصراع العربي الإسرائيلي". وهو ما غدا سمة كل عقد لما بعد النكبة. بدءاً بحرب العدوان الثلاثي على مصر في 1956. كانت إسرائيل فيه الضلع الثالث لهجوم شنته بريطانيا وفرنسا على مدن القنال. وهكذا كانت حقبة ثورية وحماسية صورها الغناء الوطني بطابعه القومي.

وظهرت سلسلة من الأغاني لم تنل نصيبها من الشهرة، كان للفنان المصري محمد قنديل نصيب كبير منها، مثل "طير وطاير في العلالي"، مروراً "شعبك راجع يا فلسطين". وكانت "هنا باقون"، قصيدة توفيق زياد بصوت كارم محمود، كصوت لأولئك الرافضين اجتثاثهم من الأرض.

مرحلة ستمتد إلى الربع الثالث من الستينيات، لتصل ذروتها الحماسية في أغنية أم كلثوم "راجعين بقوة السلاح"، من كلمات صلاح جاهين، أبرز أصوات الزجل الوطني في مصر والعالم العربي. فكانت الأغنية تصويراً لخلاص فلسطين بعون عربي.

حمل النشيد صياغة لحنية لرياض السنباطي على أحد أهم القامات الموسيقية العربية؛ العجم. لكن صيغة النشيد لم تخلُ من لمحات لحنية عذبة، تكثّف عبرها أم كلثوم قوة الخطاب، بمطلع فيه تمجيد لجيش العروبة، تجسد فيه مصر وقتها رمزية مركزية.
حماسة تتماشى مع خطاب المرحلة التعبوي لما اصطلح عليه "معركة وجود وليست معركة حدود". سنرى أيضاً اللمحات التعبيرية الجميلة للسنباطي، حين ينتقل من صوت الكورال الحماسي على مقام العجم عند "غاصب لعين"، يعقبه صوت أم كلثوم بتجسيم عاطفي يلونه مقام النهاوند عند "ودي فلسطين العرب". لاحقاً، في ختام اللحن، سيجسد النهاوند واقع المأساة، بتذكيره "ياللي إنتو رأس حربة للمستعمرين ياما حراب قدام كفاحنا اتقصفت".

صدرت الأغنية عام 1967، قبل أيام من وقوع الحدث الصاعق، الذي قلب المشهد رأساً على عقب. إنها نكسة حزيران التي انتهت بهزيمة الجيش المصري بعد هجوم إسرائيلي انتهى باحتلال سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة. حملت الأيام الأولى صوت التعبئة، التي كان بطلها صوت عبد الحليم حافظ. لكن وقع الهزيمة زادته حماسة الأناشيد والخطاب مرارةً.

وعادت التعبئة لمعركة إعادة الاعتبار، عنوانها "حرب الاستنزاف". لكنها حقبة جديدة سيحل فيها النهاوند الحزين مكان العجم المُتقد. وستعود فلسطين في أغنية "المسيح" من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي، بصوت عبد الحليم حافظ. وعلى مقام النهاوند، تقرع الأجراس لتشق آهات الكورال المصحوبة بالموسيقى.

لكن بليغ حمدي يستعير بطولته كملحن في قمة حقبة جديدة، بلونه الشعبي في مطلع الغناء، وبشكل لا يتسق مع المقدمة الموسيقية. ليغني عبد الحليم بلون شعبي "يا كلمتي لفي الدنيا طولها وعرضها" منسوجاً بمسحة الموال. وسرعان ما يستقر الغناء على الآهات الممزوجة بترنيمات الحُزن. كانت كلمات الأبنودي أبلغ تعبيراً، في توظيف المسيح كدلالة لآلام الفلسطيني، وباستحضار المُعتقد بعودة المسيح المصلوب، لتصبح عودة الفلسطيني المتوج بالشوك.

هكذا، تولد من روح الهزيمة، طريق أخرى للغناء. وفي نفس العام، جاءت أغنية "زهرة المدائن" بصوت فيروز، كواحدة من أكثر الأغاني تأثيراً على الوجدان العربي، في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. يصيغها الأخوان رحباني كلاماً ولحناً، لتصبح ترنيمة أخرى لمدينة الصلاة.

أيضاً، على سُلم المينور النهاوند، تضفي الوتريات صيغة تراتيل، تتخللها نفخيات واعدة. وفي خطاب للقدس، حيث "عيوننا ترحل إليك كل يوم"، مع تضمين مُصاحبة بوليفونية، لتجسيد صوت التراتيل بتعدد صوتي، هو أيضاً ما يجب أن تكونه المدينة؛ حيث تتعايش المعابد والكنائس والمساجد بسلام. تعايشٌ خرقه الوجود الإسرائيلي بتعسفه.
سنلاحظ أيضاً صيغة أقرب للتهويدة، في الغناء عن الوجهين الباكيين للطفل والأم، في المغارة. حزن متصل بألم المسيح، يصوّر عذاب فلسطين وشعبها المصلوب على خشبات الاحتلال الإسرائيلي.

ومن سطوة النهاوند الحزين، إلى غضب يُحدده سُلم الميجور العجم. وهناك أيضاً شكل من الانتفاضة الهارمونية تعلنها النفخيات النحاسية كنفير حرب. هو صوت "الغضب الساطع آتٍ". ولعل المشهد يبلغ ذروته في ترنيمة "سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب"، بتسارع يعقبه لحن بطيء. تلك التغييرات المستمرة في سرعة اللحن، ساهمت في القوة التعبيرية للحن. وبالمحصلة، كانت تحولاً من سِفر ألم إلى غضب، سيعقبه سِفر سلام لم يأتِ بعد.

موسيقى
التحديثات الحية

عقب ذلك بعام، ستغني أم كلثوم من شعر نزار قباني "أصبح عندي الآن بندقية". أغنية أخرى على مقام النهاوند. ما كان جديداً فيها، بعيداً عن الصيغة اللحنية البسيطة والعذبة لمحمد عبد الوهاب، بأنها أبرزت صوت الفلسطيني في مقاومة المحتل. هل كانت إعلاناً مبكراً عن تواري الصوت العربي؟ رغم ما سيعرفه العرب من نصر في معركة السادس من أكتوبر عام 1973. هل استبقت من دون قصد، ما سيحدث من سيرة تطبيع ارتسمت ملامحها في كامب ديفيد عام 1978؟

ولا ننسى أغنية أخرى، بصوت الراحلة سعاد محمد، وبلحن آخر لرياض السنباطي، من كلمات محمود حسن إسماعيل، هي "يا قدس يا حبيبة السماء". وبأسلوب السنباطي، فاضت الأغنية بوجدان ديني على مقام الهُزام. فكانت تراتيل شرقية عذبة بنفحة لحنية إسلامية، وتطريب عذب موشى بلمحة قصيرة من غناء الموشحات، بينما اللحن يبدأ على الهُزام، منتقلاً إلى البيات، ثم على مقام العراق المنسوج من الهُزام والبيات.

مرة أخرى، تختتم الستينيات عهدها في الغناء لفلسطين، بتلميح آخر لما ستشهده القضية من صعود لخطاب الصحوة الإسلامية، بشقيها السني والشيعي. وكل ذلك كان سيمسحه نصر أكتوبر، فهل كانت خطوة التطبيع حاجزاً أمام الخطاب القومي، الذي ظهرت ملامح انكماشه في نكسة 1967؟

صوت النهاوند الذي صاغ المشهد الغنائي بلمحة أمل، لاح عليه وجه الحزن دامياً ومثقلاً. وكانت خطوة أخرى أعلنها رئيس حركة فتح، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهي الانتفاضة الفلسطينية في 1987.

ومع تواري صوت الغناء الرسمي العربي في السبعينيات المتصل بالقضية الفلسطينية، سيلوح غناء المقاومة من الهامش، مثّله في مصر الشيخ إمام في ثنائية مع أحمد فؤاد نجم. فكان مزيجاً من الغناء السياسي بأغنية القضية.

صوت آخر سيظهر، اتسم بطابع النضال، اللحية الكثة والملابس العادية. وبطبيعة الحال، اتخذ هذا المسار طابعاً في الغناء والمظهر، يخلو من الزينة. ومن مصر إلى لبنان، لمع صوت مارسيل خليفة، وكانت أغنيته الأبرز الملتصقة بالقضية، "وأنا أمشي" من شعر الفلسطيني سميح القاسم، على مقام الهُزام.

لاحقاً، ظل الغناء جزءاً من الواجب الفني العربي، لكن من دون سمات واضحة؛ إذ تداخل الغناء الرسمي بلون البوب، مع الغناء "الملتزم" للقضية. كما امتدت على حوافه أشكال شعبية، تعود جذورها إلى صوت محمد قنديل والريس محمد طه، بصوت شعبان عبد الرحيم في التسعينيات: "أنا بكره إسرائيل".

المساهمون