بيدر الحسابات الأخيرة

بيدر الحسابات الأخيرة

27 نوفمبر 2015
محمد ظاظا / سورية
+ الخط -

يميل كثيرٌ من النقّاد إلى القول إن الشعر والمسرح والقصة والرواية، (أو إن رسالة الأدب عامة)، تسعى إلى انتصار الإنسان على قوى الشر والخراب، سواء كانت من بين البشر أنفسهم، أو كانت من قوى الطبيعة المدمّرة، أو من قبل مخلوقات شرّيرة متخيّلة، أي أن الأدب ينتصر للقيم النبيلة في الحياة. ولكن هل يكفي هذا كي يكتسب المكتوب اسم: أدب؟

الجواب هو لا، وهي "لا" مستمدّة من تاريخ الثقافة في العالم كله، إذ لم يثبت يوماً أن القضية النبيلة منحت وسام الجدارة لأي عمل أدبي. لم تأخذ "الحرب والسلم" لتولستوي قيمتها وأهميتها من أنها ساندت الروس في حربهم التحررية ضد نابليون، بل من الشكل الملحمي الذي ناقش لغز الوجود.

في المقابل، لم تحقّق السلسلة السوفييتية المعروفة، التي كانت تصدرها "دار التقدم" في موسكو، "مقاتلون في سبيل وطنهم السوفييتي" أية قيمة فنية، لا للأعمال ذاتها، ولا للأدب السوفييتي، على الرغم من "نبل" الشعار الذي صدرت في ظلاله.

ولا يمكن وضع رواية "الصخب والعنف" لفوكنر في أية سلة دعائية، وهي تستمر في الحياة الأدبية العالمية، مستندة إلى طاقتها التخييلية الفريدة. ولم تجتز رواية "الوضع البشري" لمالرو امتحان الزمان والمكان، لأنها تحكي عن الثورة في الصين، أو عن الكائن البشري في المواجهة المأساوية مع المصير وحسب، بل لأنها تمكنت من هذا القول، عبر كسر طرائق السرد القديمة، وتحقيق اختراق في البنية الفنية للرواية.

وبينما نجحت رواية "الغاب" لـ إبتون سنكلير في إصلاح أحوال عمّال تعليب اللحوم في أميركا، بعد أن فضح الممارسات الجشعة للرأسماليين في استغلال العمال، فإنها لم تقدم أية خدمة فنية لتطوير النص الروائي، لا في أميركا، ولا في العالم.

ولكن هل بوسع الروائي أن يخدم الشر؟ هل تستطيع أية رواية أن تُكتب من أجل تمجيد طاغية، أو سفاح في أي عصر من العصور؟

ومثلما هي سورية اليوم حقل اختبار أخلاقي وإنساني لمواقف الأفراد، فإنها سوف تكون اليوم، وفي المستقبل، حقل اختبار أخلاقي وإنساني وأدبي وفني لمواقف الكتّاب فيها. وفي الحقل، أي في الحاضر، يحدّد كل منهم خياراته الأدبية والإنسانية.

ومن المعروف أن العديد من الروائيين والشعراء والمسرحيين والمخرجين السوريين والعرب قد حفروا خنادقهم السياسية، وأقاموا المتاريس، في الصراع الدائر بلا مواربة، بل إن شاعراً سوريّاً مثل نزيه أبو عفش بدّل اسمه الشعري ليصبح "فلاديمير بوتين أبو عفش".

والمنتظر، في كل الأحوال، أن يكون "الخندق" الأدبي هو بيدر الحسابات الأخيرة. وهو التحدّي الذي سوف يثبت جدارة، أو تفاهة، ما زرعته اليد في الحقل السياسي. ففيه سوف يجد جميع الكتّاب أنفسهم أمام معضلة القضية والفن، وسوف يعرف الجميع أن الانحيازات السياسية ستكون لها قيمة أخلاقية وفكرية في التاريخ الأدبي، وفي سمعة الكاتب، لكنها لا تمنح قيمة أدبية إذا لم يتضمّن الموقف إخلاصاً موازياً لفن الكتابة أو الرسم أو الموسيقى.


اقرأ أيضاً: الحروب المقدسة: الله يريد

المساهمون