مع غزّة: فخري صالح

مع غزّة: فخري صالح

05 ابريل 2024
فخري صالح
+ الخط -
اظهر الملخص
- أبناء غزة يقاومون العدوان والقتل لحماية الكرامة والحرية، فيما يعبر الناقد الفلسطيني عن شعوره بالعجز أمام الإبادة الممنهجة والرد الضعيف من العالم العربي.
- الناقد يقضي وقته في متابعة الأخبار، محاولاً الحفاظ على ذاكرة الحدث عبر الأدب والكتابة، متسائلاً عن فعالية الإبداع في مواجهة الإبادة ومؤكداً أنه لا يعوض عن قطرة دم.
- يناقش دور الإبداع في مواجهة الظلم ويعبر عن إعجابه بغسان كنفاني، مختتماً برسالة فخر لأهل غزة ودعوة للعرب للتحرك ضد الظلم والعبودية.

"أبناء غزة يقاتلون، ويصمدون في وجه آلة القتل الوحشية، ليحموكم من العبوديّة والذل"، يقول الناقد الفلسطيني في حديثه لـ"العربي الجديد".



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- أشعُر بالشللِ وعدم الرَّغبة في الكتابة أو القيام بأيِّ عمل. أحسُّ أنَّ أيّ عملٍ أقومُ به هو أمرٌ بلا معنى في مواجهة هذه المَقتلة المستمرّة، وعملية الإبادة الممنهجة للوجود الفلسطيني. فلم أتصور أبدًا أنَّه يُمكن أن نشهدَ يوميًّا جنون الانتقام والإبادة والتدمير، دون أن نحرِّكَ ساكنًا. ردُّ الفعل، خصوصًا في العالم العربي وعواصمه المركزيّة، ضعيفٌ وخجول في أحيانٍ كثيرة، كأنَّ هؤلاء الذين يقتلون كلَّ يوم، وتدمّر بيوتهم، ويشرَّدون ويُجَوَّعون، ليسوا من طينة البشر. ما يحدث كارثة وموت للضمير، وسيكون اليأس واختزان العنف، والرغبة في الانتقام مما حدث، هي العلامات الأساسيّة للسنوات القادمة.  


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

كما قلت في جوابي على السؤال السابق: لقد أوقفَ حياتي، وحوَّلني إلى شخصٍ يجلُس ليلًا نهارًا أمام شاشة التلفزيون، يقلّب القنوات، باحثًا عن بصيص أمل في أن تتوقّف هذه المذبحة وهذا الجنون الإسرائيلي، وشهوة الانتقام العمياء التي تُجَرِّد الفلسطيني من إنسانيته، فتقتله بدمٍ بارد. صحيح أنَّ المقاومة الباسلة، والصمود الفلسطيني العظيم في غزة، يبثّان بعض الأمل، لكن الفاتورة الباهظة التي يدفعها أهل قطاع غزّة العظماء تجعلك تتساءل عن استحقاق ما حدث.
 

إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- لا يساوي كل ما كتب وسيُكتب قطرة دمِ طفلٍ فلسطينيٍّ سالت وروت هذه الأرض المجبولة بدم هذا الشعب المنذور للشهادة، ومقاومة المشروع الصهيونيّ العنصريّ الاستعماريّ الكولونياليّ، القائم على الإبادة والمحو. الأدب والكتابة، بعامة، هما محاولة للقبض على ذاكرة الحدث، للكشف والفضح، والتأكيد على قوة الحياة في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة – الأميركيّة العملاقة، المتوحشة والمجرمة. لكن صورة أو مشهدًا صغيرًا تسجله الكاميرا قد تكون قوة تأثيره أضعاف أضعاف ما يمكن لنصٍّ أدبيّ أن يقوم به. 

الأدب للذاكرة، وهو يأتي في ما بعد. بعد أن تسكت المدافع، وتخفتُ آهات الضحايا وصرخات المنكوبين.       

لا يساوي كل ما كتب وسيُكتب قطرة دمِ طفلٍ فلسطينيّ


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- الإبداع ليس حقلًا منفصلًا عن عالم السياسة والمواقف اليوميّة. ولا يملك الكاتب الفلسطينيّ من الترف ما يجعله غير منخرطٍ في السياسة. الانقطاع إلى الإبداع والكتابة، وإدارة الظهر للعالم، في هذا المشهد اليومي للقتل والإبادة، هي نذالة وانحطاط وسقوط، نشهد للأسف بعض مظاهره لدى بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب هذه الأيام. هناك صامتون صمت القبور، ومنشغلون بصورهم وبوزاتهم، وما حققوه في الماضي، وما حصلوا عليه من جوائز، وما ترجم من كتبهم! هذه أمور مفهومة بالطبع، لأنَّ الكتاب لديهم مصالح، مثلهم مثل البشر الآخرين، فيهم الشجاع، وفيهم النذل الخانع. لكن ما يحدث الآن يحرك الصخر، كما يقال. فلننظر إلى ما يحدث من مظاهرات عارمة في عواصم العالم ومدنه، ونقارنه بالأداء المخجل في عالمنا العربي.


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- برغم الفاتورة الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطينيّ، وخصوصًا في غزة العظيمة، فقد تغيّر العالم. صارت فلسطين عنوان كل مظلومية، رمزًا للمقاومة والبسالة في وجه آلة البطش الصهيونيّة الغربيّة. كلُّ مظلوم يتعرض للاضطهاد، وتنتقص حقوقه، صار يطابق هويته مع هوية الفلسطينيين. لا شيء يفسر هذا التحول الأسطوري في العالم، واحتضان قطاعات واسعة للقضية الفلسطينيّة، سوى تماهي هذه الحشود مع صورة الفلسطينيّ المظلوم والمقاوم. مصير "إسرائيل" هو ما انتهى إليه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وأن ترفع دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد "إسرائيل" لدى محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية ذو دلالة رمزية تاريخية ساطعة. لكن المسألة ستأخذ وقتًا، كما حصل مع جنوب أفريقيا. هذا مفصل غير مسبوقٍ في تاريخ القضية الفلسطينية.    

الإبداع ليس حقلاً منفصلاً عن عالم السياسة والمواقف اليوميّة 


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- غسان كنفاني. كان عمري خمسة عشر عامًا عندما اغتاله الموساد الإسرائيلي في بيروت عام 1972. أظنني كنت قرأت روايته "عائد إلى حيفا" في تلك السنة، وعرفت معه أن "الإنسان قضيّة". لم أكن قرأت أعماله الأخرى لأنها لم تكن متاحة في ظل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. 

ما سأقوله لغسان، وهو واحد من أبناء هذا الشعب العظماء، إبداعًا وموقفًا واستشرافًا، هو أنَّ تحليله وتصوره لواقع القضية الفلسطينية لم يتغير: فـ"الصغير" ما زال في طريقه ليحرر "قلعة صفد" بعصا. والآلة العسكرية الصهيو-أميركيّة الضخمة، لم تقوَ على هزيمة هذا الشعب، الذي يقاتل منذ ما يزيد على مائة عام. 


كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- أشعر بالخجل من عدم قدرتي على فعل شيءٍ حقيقيٍّ لكم. صمودكم العظيم يشعرني بالفخر، وبالضآلة الشخصية في الوقت نفسه. سيذكركم التاريخ، ويدفع إلى مزابله من خانوكم وخذلوكم.


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- أبناء غزة يقاتلون، ويصمدون في وجه آلة القتل الوحشية، ليحموكم من العبوديّة والذل والتبعيّة التي تسعى إليها "إسرائيل"، وداعموها الغربيون، وحلفاؤها من الأنظمة الوظيفية الذليلة الخانعة، لكي تجعلها علامات حياتكم المستقبلية. استيقظوا من هذه الغيبوبة التي التي تنوء بثقلها على ضمائركم.


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أشعر بالخجل منك. من ألمك. سيظلّ عذاب الضمير يلاحقني إلى آخر العمر، لعجزي عن تقديم شيءٍ حقيقي لك ولأطفال فلسطين العظماء. ما أكتبه لا يساوي دمعة واحدة سالت على خدك النبيل الجميل.  



بطاقة

كاتبٌ وناقد ومترجم مولود في بلدة اليامون، غرب مدينة جنين، عام 1957. أصدر أكثر من عشرين كتاباً في النقد والدراسات في الأدب الفلسطيني والعربي، من إصداراته: "في الرواية الفلسطينية" (1985)، "وهم البدايات: الخطاب الروائي في الأردن" (1993)، "دفاعًا عن إدوارد سعيد" (2000)، "في الرواية العربية الجديدة" (2009)، "إدوارد سعيد: دراسة وترجمات" (2009)، "قبل نجيب محفوظ وبعده: دراسات في الرواية العربية" (2010)، "أصوات من ثقافة العالم" (2012)، "كراهية الإسلام" (2016)، "على هذه الأرض ما يستحق الحياة: مختارات من شعر محمود درويش" (2021)، "تحت سماء رمادية: المنفى، الاستشراق، إنسان العصر العاري، ما بعد الحداثة، ومقالات أخرى" (2024).

له العديد من الكتب المترجمة، منها: "النقد والإيديولوجية" لتيري إيغلتون، و"المبدأ الحواري" لتزفيتان تودوروف، و"الاستشراق" لضياء الدين ساردار، و"موت الناقد" لرونان ماكدونالد. كما حرّر عدداً من الكتب حول الشعر العربي المعاصر والنظرية الأدبية المعاصرة. حاصلٌ على عدد من الجوائز، من بينها "جائزة فلسطين" في النقد الأدبي (1997)، و"جائزة غالب هلسا للإبداع الثقافي" (2005)، و"جائزة أحسن كتاب مترجم" من "جامعة فيلادلفيا" الأردنية (2012).
 

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون