"فندق القسطنطينية" لـ زولفو ليفانلي... فوق الأنقاض القديمة

"فندق القسطنطينية" لـ زولفو ليفانلي... فوق الأنقاض القديمة

18 فبراير 2023
زولفو ليفانلي خلال مهرجان "الساحة الحمراء" الأدبي في موسكو، 2018
+ الخط -

رواية الكاتب التركي زولفو ليفانلي (1946)، "فندق القسطنطينية"، روايةٌ في عالمين؛ ليس فقط بين عالم رجال الأعمال والأثرياء الذين يحتفلون بافتتاح الفندق، وعالم العمّال في المطبخ والنادلة بين الطاولات، الذين يعملون على إنجاح حفل الافتتاح؛ بل فضاء الرواية برمّته مشيّد على أنقاض عالمٍ قديم. فالفندق الذي يُحْتَفَل به مبنيٌّ على أنقاض قصر بيزنطي. وقبل ذلك، الرواية كلّها تدور بين عالم الأحياء بما فيهِ من ارتهان البشر للزمن، وعالم الأموات حيث يغيب الزمن؛ وهي بين ما يعلو إسطنبول، وما يسكن تحتها، على طبقات تمتدّ مئات السنين.

في كلّ تفاصيلها، تتراوح الرواية الصادرة عن دار "الأهلية"، بترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، بين وجودٍ وآخر، إذ على امتداد السرد، تُترك شخصياتها عرضةً لثنائيّةٍ ما، وتؤكّد خلوّ عالم الأحياء من العدالة بالنسبة إلى عالم الأموات، حيثُ المساواة تشمل حتّى الأعضاء المنتزعة من الأجساد، ما يُحيل إلى مصيرٍ متفلّت ينتظرُ البشر، فالإنسان نفسه عرضة لئلا يواجه مصيره وحيداً.

نقابل شخصيات الرواية وهي مرميّة في عالم من الثنائيات

الرواية، إذاً، احتفاءٌ بعالمٍ حيّ فوق عالمٍ ميت. ونعرف هذا من خلال الارتحالات الروحيّة الغامضة للشخصية الرئيسية: زهرة. إذ بعد سقوطها في أرضية الحمّام، تجد نفسها أسفل الفندق، فيما روحها تعوم قبل ما يربو على ألف وأربعمئة عام. وارتحالها إلى الموت إشارة تقدّم لروايةٍ جوهرها هو الاحتفاء بعالمٍ جديد قوامه الزيف وفشل الثورات. ونقرأ في الاحتفال حوادث متفرّقة تجمعها الجريمة التي تملأ إسطنبول. فالقتل يبدو فعلاً سهلاً، عادياً، ليسَت فيه قداسة؛ وفي بعض الحالات يكون على النقيض، قتلاً يعتقدُ القتَلةُ فيهِ أنَّ أفعالهم مقدّسة. كالأب الذي قتل زوجته وطفليه ثمّ نفسه، كي ينجو من اقتراب يومِ القيامة.

والرواية، عدا عن كونها ترمي الشخصيات بصورة دائمة وسط ثنائيةٍ ما، فهي تعرض اتجاهاتٍ فكرية شتّى، عرضاً يقدّم مسحاً شاملاً لتركيا. وهي، بهذا المعنى، رواية شاملة (تقع في 391 صفحة) تقرأ إسطنبول على السطح من خلال الانتماءات المتمايزة لأبطالها بعقائدهم وبأزماتهم وبالحلول التي يخلصون إليها. لا ننسى أنّ إسطنبول من أكثر المدن غنى وتنوّعاً، فهي مدينة تقف على الحواف. وهذا قادم من الجغرافيا، وقادمٌ من العقلية التركية التي تنتمي إلى الشرق وتتطلّع إلى الغرب.

الصورة
فندق القسطنطينية - القسم الثقافي

كلّ مفهوم يُذكر في الرواية يمكن أن يَصلح طرفاً جدليّاً في علاقةٍ ما. القداسة نفسها تتنازعها ثنائية الجسد والروح؛ بما للجسد من دلالات ماديّة كالتخمة والثراء وعمليات التجميل، وبما للروح من مجالات في الحبّ والعمل الإنساني والصداقة. وفي السياق عينه، نَرى الأثرياء وهم يمجّدون الجسد، يحتفون بهِ ويبالغون في تجميلهِ. ونرى الفقراء وهم يمجّدون الروح، ويحتفون بأعمال الخير والنزاهة والابتعاد عن المعاصي. وبين هذين المثالين المتناقضين، تُؤسّس أحداث الرواية بشخصياتٍ خرجت من الفقر وانتهت إلى الثراء، كحال الشخصية الرئيسية في الرواية، سكرتيرة صاحب الفندق أرجون بك، وهو وريث عائلة من أغنى عائلات الشرق؛ عائلة اغتنت إثر تحوّلات اقتصادية واجتماعية تَرافقت مع نهاية العهد العثماني وبداية الجمهورية. وفي هذا أيضاً نلمح عالمين، ونرى أنّ لكلِّ زمان أبطالَه. ومن البداهة أن يكون رجال زمن الزيف والجريمة فاسدين وقُساةً.

في ارتحالات زهرة، تعود إلى حقبة قائد يُدعى بيليساريوس، في فترة الاضطرابات التي عُرفت باضطرابات نيكا، عام 532 م. والقائد يُلقّب بأنّه "آخر الرومان". أيضاً تتعرّف على عشيقها الذي يصيرُ شريك حياتها في اضطرابٍ يحدث في إسطنبول عام 2014. وهذه الانتقالات الزمنيّة السرديّة لعبة الروائي كي يتنقّل في الاضطراب، وكأنّما الاضطراب هو طبيعة إسطنبول، لا طبيعة أزمنتها المُنْتَقاة فحسب. عدا عن خلاصة مفادها أنّ المكان ــ أي إسطنبول، القسطنطينية ــ مُؤسَّس على طبقات، على حكّام وثقافات. وما يُظْهِرُه المتن ليس سِوى السطح، الذي لم يعد سطحاً في لعبة الكاتب وانتقالاته إلى فترات انتهاء حكم وبدء آخر، بل أصبحَ مرآةً تضيءُ اضطراب الأعماق.

سرد لأزمات قديمة وحديثة لإسطنبول، وكأن الأزمات طبيعتها

يمضي النصف الأول من الرواية في تفكيك عالم أرجون بك. وبعد توصيف ثرائه، وامتداد شبكة علاقاته التي تشي بفساده وشموله دولاً عديدة، نقرأ خلوّ عالمهِ الروحي. الرواية، بهذا، تبني ثمّ تهدم، أو تبني وتهدم معاً. فهي إذ تبني عالم الثراء والوفرة بكلّ جاذبيته، فإنّها تنتهي بأرجون بك إلى أن يفكّر بقتلِ ابنهِ، وريثه الوحيد. أمّا عالم الفقر، فيرمز إليهِ الكاتب، إمره، الذي يحاول نشر كتابهِ، وينتهي زوجاً للفتاة الثرية، وهذا هدمٌ أيضاً، لأنّه عزوفٌ عن مبدئه الذي يحتقر المال. ولدى الكاتب في الرواية حكاية مع الناقد الذي رفض مخطوطه.

يفكّر الكاتب بقتل الناقد. يراقبه أياماً، وفي أثناء مراقبته، يقرأ الكتب التي يرى الناقدَ يقرأها. ويستمرّ هكذا، حتّى يعزف عن القتل. وفي عزوفه إشارة إلى التأديب الذي لقّنتْه إيّاه الروايات الإنسانيّة التي قرأها. وهذا خلقٌ مبني على عالمٍ متهدّم. ولو أنّ نهاية الكاتب، إمره، كانت باللجوء إلى عالم المال. وكأنّما الاضطراب السياسي الذي يركّز عليهِ النّص، ليس اضطراب المكان فقط، وإنّما اضطرابَ ناسهِ.


* روائي من سورية

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون