فكرة رواية حول إسطنبول

فكرة رواية حول إسطنبول

14 يوليو 2022
زولفو ليفانلي في موسكو، 2018
+ الخط -

في أحد أجمل أيام الربيع بإسطنبول، وفي وقت العصر، خرجَت زهرة كاراجا مع إمره للاحتفال بعيد زواجهما الثاني عشر. جلسا يشربان العرق في الطابق العلوي للمطعم المطلّ على الخليج، وهما يشاهدان إسطنبول التي تسحر من يراها في هذه الساعات.

كان يطلّ أمامها جامع السليمانية والجامع الجديد وآيا صوفيا والسلطان أحمد. العبّارات تروح وتجيء في الخليج، وتحت الجسر كان هناك مئات الصيادين. وفي الضفّة الأُخرى تصطفّ الدكاكين وحانات العرق. وكانت رؤية إسطنبول من حي بِيرا جميلة، ولكن لمن يعرف تاريخ المدينة. هما الآن بين أبنية جمهورية جنوة ويشاهدان القسطنطينية، أي التلال التي مرّ من عليها السلطان محمد الفاتح.

اكتسبت زهرة خلال السنوات الماضية نضجاً ظهر على وجهها، لكنه لم يؤثّر على شبابها. ما زالت امرأة جميلة بشعرها غير المصبوغ ولطفها. الشيء الوحيد الذي يُذكِّر بالماضي هو الحزن الذي يبدو على عينيها من وقت لآخر. أمّا إمره فكان كما هو دائماً، بشعره الطويل المُجعّد، وبنطاله غير المكوي. وغالباً سيظلّ هكذا حتى الموت.

رفعا كأسَي العرق احتفالاً بعيد زواجهما، وقال إمره:
- هل يمكن أن يعيش الإنسان في هذه المدينة دون أن يقشعرّ بدنه؟ في المدن الأُخرى ثقافة واحدة سائدة، أمّا إسطنبول ففيها تاريخ الدنيا: اليهود والأرثوذكس والكاثوليك والإسلام… هل تعرفين؟ قديماً كان يُحكى في إسطنبول 39 لغة مختلفة، فهل من الممكن ألّا يقع الإنسان تحت سحر كلّ هذا؟ منذ سنوات، ولديَّ فكرة رواية حول هذه المدينة، ويجب أن تتناول الإمبراطوريات الرومانيةَ والبيزنطية والعثمانية. في كلّ عصر بهذه المدينة توجد ثروة وحُكم وتمرُّد ومؤامرة وعنف وشهوة، وتتكرّر في كلّ جيل ولكن بشكل مختلف.

هل تعرفين؟ قديماً كان يُحكى في إسطنبول 39 لغة مختلفة

لاحظت زهرة أنها إذا لم تقاطعه فسوف يتحدّث لساعات، فقالت:
- كفى يا إمره، هل جئنا إلى هنا لنتحدّث عن الرواية؟ لنُغلق الحديث. ولكن سأقول لك شيئاً؛ إنك لا تستطيع الحديث عن ماضي هذه المدينة إذا لم تجعل الموتى يتحدّثون.

اندهش إمره، وسألها من أين أتى هذا إلى عقلها، فقالت:
- لأنني قرأت هذه الرواية. هل من الممكن أن نعود إلى احتفالنا الآن؟

كان إمره يريد أن يفهم قصدها بما قالت، ثم ابتسم وقبّلها ثم قال:
- عذراً. لقد خسرتكِ قديماً من كثرة كلامي ثم حدثت معجزة.

- هل تتذكّر ذاك اليوم؟

- نعم أتذكّر حتى أصغر التفاصيل. النساء يتذكّرن التفاصيل أكثر من الرجال. ولكي يكون زواجنا مثاليّاً، يجب أن تكوني أنتِ الرجل وأنا المرأة.

- معك حق. حتى إنّني أشاهد مباريات كرة القدم أكثر منك، ولديّ فريق أشجعه. ولكنك بعيد عن كل هذا؛ لا تشاهد المباريات وليس لديك فضول للسيارات ولا لعب الورق…

- إنني أشعر بضجر من مثل هذه الأشياء، وخصوصاً مباريات كرة القدم. كان أبي يشاهد المباريات دائماً، وكنتُ أقول له إن ما يفعله غير منطقي. فقط كانت جدّتي تتّفق معي على هذا الرأي. وكانت تقول لي إنّ مشاهدة مباريات كرة القدم حرام، لأن جنود يزيد كانوا يلعبون الكرة برأس الحسين في كربلاء.

قبل خروجهما، تركت زهرة ولديها في بيت أمّها، وهما آتيلا ابن العاشرة، وجان في السادسة من عمره. وقبل ثلاث سنوات ونصف توفّي والد زهرة. وصارت مديرةً للموارد البشرية في شركة أرجون بك، الذي ترك العمل منذ عامين، وبدأ يقضي أغلب وقته في لندن. وكانت زهرة مدينةً له في وصولها إلى هذا المنصب. وصار أرجومنت مساعداً لزهرة في العمل، وقد تزوّج من فتاة أُخرى، حتى أنّ زهرة شهدت على عقد زواجه. أمّا إمره فقد كتب رواية بعنوان "امرأة من مانستر"، ونشرها بدعم من الناقد، ولم تُحدث الرواية أي صدى، ولكن اهتمّ بها بعض القرّاء، ومدحها بعض النقّاد في المجلّات الأدبية. كانت تتناول حياة عائلة جدّته أيام حرب البلقان، وهجرتهم من مانستر إلى إسطنبول سيراً على الأقدام.

كانت شخصية زهرة أكثر عمقاً مقارنة بإمره. وكانت من وقت لآخر تشعر بالحزن، رغم أنّ كل شيء كان على ما يرام. وسألها إمره الذي لاحظ حزنها إذا كانت أخذت دواءها أم لا، فقالت:
- نعم. لا تقلق عليّ يا كاتبي العزيز. إنّني بخير. ابدأ بالحديث عن أي موضوع غير الاحتفال بعيد زواجنا، حتى إنّني أسمح لك بأن تتحدّث عن أي سخافة تريد.

- كيف تستطيعين تحمُّلي؟

ضحكت زهرة، وبدأ إمره في الحديث عن بعض الأشياء، وبعد انتهاء كلامه قالت له:
- هل تعرف ما هي مشكلتك؟ ربما ينبغي أن تكتب أكثر ممّا تتكلّم. وإذا بقيت هكذا فسوف يقولون عنك حكّاء فقط، وليس كاتباً. واعتباراً من الغد، سأعطيك من دوائي لأنك مريض أكثر منّي.

- بالتأكيد. وإذا أردتِ فمن الممكن أن أحرق خراء طائر اللقلق في البيت أيضاً لكي يذهب الشرّ والموضوعات السخيفة.

أخبرها إمره بأنها على حقّ، ولكن ليس لديه من يحكي له غير زهرة. كان يقرأ بشكل يومي ويتعلّم أشياء جديدة، ويريد مشاركتها مع شخص آخر، إلّا أنّ أغلب من حوله لم يكن لديهم الفضول لمثل هذه الأشياء. مثلاً، كان إمره يردّ على الذين يرون أن السلاطين العثمانيّين كانوا يقضون حياتهم فوق الأحصنة في الحروب، بأنّ السلطان مراد الثالث كان لديه أكثر من ثلاثين ولداً، فهل تعرفون هذا؟ إلّا أنّ أحداً لم يكن يندهش من كلام إمره أو يهتم له. كما كان يقول أيضاً إن المقولة الشهيرة: "كل الطرق تؤدّي إلى روما" قِيلت أصلاً عن إسطنبول، ولكن لا أحد يلتفت لكلامه. 

- سامحيني يا زهرة، ألاحظ أنّني تحدّثت كثيراً.

قالت زهرة ساخرة:
- لا لا، استمر.

- مثلاً، خطر ببالي شيء الآن. كيف لا يتحدّث الإنسان وهو ينظر إلى الخليج عن أنّ ليوناردو دافنشي هو الذي صمّم مخطّطاً لجسر الخليج وأرسله إلى السلطان بايزيد الثاني. وبينما كنتُ أشرح هذا لصديقي منذ أيام، بدأ يسخر من الموضوع بمزاح سخيف، وأنا سكتُّ لأنني لم أفهم مزاحه. إمّا أنّ هؤلاء من كوكب آخر أو أكون أنا كذلك، ولا يمكن أن نتفاهم.

كانت زهرة تضع يدها على يد زوجها عندما يكون متحمّساً مثل الآن، وتبتسم، وهذا كان يجعله أكثر هدوءاً.

كفى يا إمره، هل جئنا إلى هنا لنتحدّث عن الرواية؟

بالتأكيد كان يفكّر الجالسون على الطاولات الأُخرى حول زهرة وإمره أنّ لديهما موضوعات كثيرة يتحدّثان عنها. وفي هذه الأثناء، نظر إمره إلى عينَي زهرة وهو يقرأ لها قصيدة بعنوان "ستُصاب بالعشق" للشاعر تشراغي بابا ثم علَّق إمره قائلاً:
- لقد حكى عن الموضوع بشكل جميل، أليس كذلك؟ من الممكن أن يأتي العشق في لحظة غير منتظرة مثل الموت.

ابتسمت زهرة ابتسامة خفيفة وهي تنظر إليه، وقالت إنّ الشِّعر جميل للغاية ثم مرَّ وقت دون أن يتحدّث أي منهما، لكن إمره تكلّم مرّة أُخرى كعادته، وبدأ يشرح شيئاً ما بحماس، وهو يحرّك يديه. ولكي تُسكته زهرة كانت تُقبِّله، وهي تفكر: "هل هو مصاب بانفصام الشخصية؟"، هي تعرف أنه ليس كذلك، لكنها كانت تفكّر هكذا أحياناً، وهذا شيء جيّد من أجلها، حتى لا تكون المريضة الوحيدة في العائلة.
 

بطاقة
Zülfü Livaneli
كاتب تركي وُلد عام 1946. يعَدّ من أبرز الأسماء التركية في مجالات الأدب والموسيقى والسينما، وحصل على العديد من الجوائز التركية والعالمية في هذه المجالات، مثل "جائزة البلقان الأدبية" عام 1997، و"جائزة أفضل كتاب" للعام في فرنسا وإيطاليا. تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وبسبب أفكاره السياسية، سُجن عام 1972، وبعد خروجه عاش لسنوات طويلة في المنفى. يعيش في إسطنبول الآن، وما زال يمارس الكتابة الأدبية والغناء.

* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير. والنص المقتطف هنا فصل من رواية "فندق القسطنطينية" الصادرة حديثاً عن "الأهلية"

المساهمون