القطار

23 مايو 2024
عملٌ للفنّان المكسيكي جوزيه كليمنت (1883 - 1949)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في رحلة قطار غامضة، يواجه الراوي أصوات مزعجة ومشاهد مروعة تتحول من شجار بين طالبين إلى ظلام دامس ونهر يضرب شاطئه، مما يعكس قوة خارقة للقطار.
- تتصاعد الأحداث لتكشف عن مأساة على ضفاف النهر حيث يتحول الماء إلى اللون الأحمر بسبب جسد ممزق يطفو على السطح، ويكشف صوت قريب عن قتل الغريق بسبب أفكاره الغريبة.
- تنتهي الرحلة بكشف أن كل ما حدث كان حلمًا أو هلوسة، مما يعيد الراوي إلى الواقع بفزع، ويترك القارئ مع تأملات حول الحقيقة والواقع، في تجربة قراءة تجمع بين الواقع والخيال.

يطرُق القطار ويطرُق. طَرْقَ الحديد على الحديد. المقطورات مُهودٌ تهزُّكَ في نفق الزمن. تعتاد على الصوت الذي يُثير أعصابك في البداية. تنويمة حديدية. يُمكنك النوم حتى تتخلّص من شِجار الطالبَين اللّذين يجلسان أمامك وهُما يذهبان إلى المدينة. يا له من نفق طويل وبلا نهاية.

يُعلن الليلُ عن حضورِه الأَسود من خلف الزُّجاج الشفّاف. يتضاعف الظلام ولم أستطع رؤية أيّ شيء؛ والقطار يطرُق ويطرُق.

أجدُ نفسي بجوار النافذة. ينفتح أمامي نهرٌ عظيم. أمواج الماء تضربُ الشاطئَ وتُبلّل عجلاتِ القطار. لكنّ القطار لن يتوقّف عن الحركة. يتحرّك القطار بسُرعة فائقة فأشعر بأنّني قد أقلعتُ عن الزمان والمكان. يا لها من قوّة فائقة! لم يسبق لي أن ركبتُ مثل هذا القطار.

نَصِلُ إلى حيث يتوقّف القطار عن الحركة من شدّة السرعة. أرى النهر بوضوح والناس على ضفّتيه.

كيف يُسمع صوتُ "أنا الحقّ" من كلِّ أجزاء هذا الجسد؟

يقفُ الناس مجموعات مجموعات ويحدّقون في نقطةٍ أو نقاطٍ في وسط الماء. نظرتُ في حيرة إلى الجَمع. كان بعض الناس يبحثون عن رمالٍ أو حجارةٍ ليرموها في النهر. لم يكُن الماء أزرق ولا بُنيًّا. كان لونُه مختلفاً. أعتقد أنه كان نيليًّا. لكنه لم يكُن النيل. هل كان دجلة أم كارون؟ لا أعرف. أعني أنّني لم أستطع التمييز.

قال صوتٌ من مكانٍ قريب: "اعصبوا عينيه. هناك نُدوبٌ على جسده".

يبدو أنّ الناس ذهبوا لرؤية فيلم مُثير. تلمَع عيونُهم من السعادة. لم أستطع أن أسأل أحدًا عن الأمر. كان لساني ثقيلًا والمشاهد والناس كلاهما غير مألوف.

يزداد الماء احمرارًا في كلّ لحظة. تتقافز القروش والأسماك. الحرَسُ وهُم يمتطون الخيول ويحملون السِّياط أجبروا الناس على رجم النهر بالحجارة.

قال الصوتُ مرّةً أُخرى: "بعد الإعدام ألقوه في النهر حتى لم يبق له أثر".

كان عدد الناس يتزايد لحظة بعد لحظة. كان هناك طوفانٌ من الحجارة يتساقط من جانبَي النهر نحو الماء. مع أنّ الحجر يضرب سطح الماء، إلّا أنه يُحدث صوتًا. كأنّ سطح الماء متجمّدٌ أو أنّ النهر مُغطّىً بزُجاجٍ يتشقّق بكلِّ ضربة. لكنّ الطقس لم يكن باردًا تمامًا. يقول الناسُ أشياءَ لم أفهمها. شعرتُ بأنني غريبٌ في ذلك الجمع أو أتيتُ من كوكبٍ آخر. الجيّد أنه لا أحد يراني؛ لكنّني أرى كلَّ شيء. كانت الوجوه تقف سعيدةً وغيرَ مباليةٍ أمام النهر. تابعتُ نظراتِ المتفرّجين وامتلأ الهواء بالعاصفة والدخان الكثيف والخانق.

للحظة شعرتُ بضيقٍ في التنفُّس. غير معقول أن يطفو جسدٌ وسط النهر ولا يغرق. لم يكن الجسد كاملًا. أي أنه لم تكن له ذراعان ولا رِجلان والأغربُ أنه كان نصفَ حي.

قال الصوتُ: "قتلوه سِرًّا بسبب أفكاره الغريبة".

نظرْتُ بدقّة. كانت يده اليُمنى ورِجلُه اليُمنى في زاوية من النهر، ويدُه اليسرى ورجله اليسرى تطفوان في زاوية أُخرى.
كان جسد الغريق ممزّقًا لكنّه لا يزال يُقاوم الموت. هل كان حيًّا حقًّا؟ لم أستطع التفكير. لم يُجدِ التفكير أبدًا. مع ذلك سيطرت المشاعرُ العمياءُ والفرحُ المقزّزُ على عقول الناس.

في هذه الأثناء بدأت الفوضى وتركّزت كلُّ الأنظار على نقطة واحدة؛ حيث يطفو رأس الغريق وساقُه. كانت شفتاه المزرقّتان تتحرّكان، كما لو يهمس بصلاة. نظر الجميع إلى بعضهم البعض بغرابة. نعوذ بالله. هرب البعض من الخوف والبعض بقي بدافع الفضول لمعرفة الحقيقة. علَت الهمَسات من بين شفتَي الغريق. لكنّها لا تزال تبدو لي غامضة. صمتٌ مُميتٌ ألقى بظلّه على جانبَي النهر ولم يُسمع صوتُ أحد. حتى الحرس صمتوا. كأنّ الجمع ميّتٌ والغريق حيّ.

من بين صرخات الغريق التي كانت تُسمع من وسط النهر لم أفهم سوى صرخة "أنا الحقّ". والآن أصبحتُ متلهّفًا إلى معرفة حقيقة كيف يُسمع صوتُ "أنا الحقّ" من كلِّ أجزاء هذا الجسد. كنتُ في هذه الحالة إذ ارتطمت حجارةٌ كبيرةٌ بسطح الماء.
فوجِئتُ بضربة الحجارة. انفتحَت عيناي وقفزتُ من الكرسيّ. كان قد انكسر زجاج نافذة المقطورة؛ وكان الطالبان لا يزالان يتحدّثان والقطار يطرُق ويطرُق.


* ترجمة عن الفارسية: حمزة كوتي



بطاقة

يوسف عزيزي بني طُرُف، قاصّ ومُترجِم وصحافي عربي من مواليد الأهواز عام 1951، يكتب باللُّغتين الفارسية والعربية. من أعماله في القصّة القصيرة باللغة الفارسية: "عيون شربت"، و"حته، النهر والمستنقع"، كما له في الترجمة: "أوراق الزيتون" لمحمود درويش، و"يوم قُتل الزعيم" لنجيب محفوظ، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون