"راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي: نهايات البوب

"راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي: نهايات البوب

07 مايو 2023
(من المعرض)
+ الخط -

"راجعة يا ماما" عنوان معرض كاتيا طرابلسي (1960) الأخير في "غاليري صالح بركات" ببيروت (اختُتم في 22 نيسان/ إبريل الماضي). "راجعة يا ماما" ليست إلّا عبارةً نُصادفها مرسومةً على مؤخّرات ومقدّمات الشاحنات، أو الباصات. المعرض كلّه سيكون زمراً من هذه العبارات المرسومة، واحدةً واحدة، على تشكيلات من حديد، هي مستطيلات وزوايا ودوائر تتداخل في ما بينها، في ما يشبه النوافذ.

عباراتٌ هي مانشيتات، وعناوين عريضة، أو رسوم تقليدية للعين الواقية من الحسد، ولأعشاب وقلوب، إلّا أنّها جميعها دارجة ومألوفة، وتكاد في مجموعها أن تُشكّل جانباً من تقاليدنا وتراثنا الشعبي. لذا لا نستعجل إذا نسبنا هذه الأشكال إلى "البوب آرت"؛ فهي منسوخة عن تراث متراكم ومتناقَل، منذ قرون، وهي، حتّى في انتظامها وتشكيلها، تُحافظ على هذا الميراث، بحيث إنّنا نراها في اللوحة، وكأنّها على مؤخّرة أو مقدّمة باص أو شاحنة. إنّها، حتى في ذلك، تعود إلى المخيّلة الشعبية وتستمدّ منها. يمكننا لذلك أن نرى في معرض كاتيا طرابلسي احتفالاً بهذا التقليد، واستعادةً له، حافظت، حتى في لوحتها، على المخيّلة الشعبية ونسجت على غرارها، أو أعادت نسجها تماماً كما هي.

الصورة
معرض راجعة يا ماما2 - القسم الثقافي
(من المعرض)

إذا تنقّلنا بين هذه العبارات والتصاوير، سنعثر على العين الواقية من الحسد، والكفّ التقليدي، مع زهور وأعشاب وأرزات مرسومة، على نحو ساذج وبخواص تقليدية. إلى جانب ذلك سنقرأ عبارات شتّى، تُشكّل في مجموعها تراثاً كاملاً، مستقرّاً. عبارات وأنصاف عبارات متوازية في ما يُشبه بيتاً شعرياً، وإلى جانبها ما يمكن ردّه إلى التعليم الأخلاقي، والموعظة الحسنة، والعواطف والتعابير المأثورة، والتعليم الوطني والديني؛ كأن نقرأ على لوحات متفاوتة في الحجم والعرض: "ما شاء الله"، "ارضى بالنصيب"، "الكون المحبّة"، "محروسة"، "الدنيا ممرّ"، "أبو الزوز كن قليل"، "الكلام لتبقى عالي المقام"، "الله يبارك"، "بحبّك يا لبنان"، "يا وطني بحبّك"، "راجع يا ماما"، "يخزي العين"، "يا رضى الله ورضى الوالدين"، "لهم القيل والقال"، "ولنا الهيبة والأفعال"، "مكّار يا زمن"، "يا مسهّرني"، "على الله توكلنا"، "الكلام صفة المتكلّم"، "عضّة أسد ولا نظرة حسد"، "طُولت البال، ولا نظرة الرجال"، "جنّة تحت الأقدام الأمهات"، "ابني ابنك"، "ما تبني لابنك"، "عندك من الأصحاب مية، بكفي واحد صافي النية"، "شيل عيونك عنّي، نظراتك بتذوبني"، "يا رب رضاك"، "الله معك"، "لا تنس ذكر الله"، "انظر بعينيك وارحم بقلبك"، "طل القمر"، "شيل عينك عني"، "ما عليك مني"، "سوق ع مهلك يرحم أهلك"، "الدنيا ملعب والشاطر يلعب"، "كلام الناس لا بقدم ولا بأخر"، "ميلي ع ميالك أبو العبد خيالك"، "الحمد لله"، "لا تسرع يا بابا ماما بتتجوز غيرك"، "ابعد عني عيونك"، "عين الحاسد تبلى بالعمى"، "سارحة والرب راعيها"، "يا طالعة طلعتك… ربي مأمن رجعتك"، "صبرك يا أيوب"، "كل من سار على الدرب وصل"، "يا لزيز يا رايق"، "سألتك حبيبي لوين رايحين"، "بيروت، كسروان، جونية، راشيا، المتن، بعبدا". على ما يشبه غصناً مع بقية المناطق اللبنانية، "عضّة لبوة وأسد ولا نظرة أسد"، "الدنيا ممرّ الآخرة مقر"، "أكبر من أن يبتلع أصغر من أن يقسم"، "عزتنا بأرزتنا".

هذه العبارات لا تكتفي بالموعظة والتعليم، إنّها تضيف المثل والحكمة والدارج من الصور والأقوال. هناك أيضاً عبارات تدليل وتحبّب وغزل، وفوق ذلك محاكمات ومشاعر وخلاصات، لكن ما يجعل من هذا الكلام لوحةً وفنّاً، ليس تراثيته وتواتره فحسب. إنّه أيضاً في رسمه على الحديد، وفي تفاوتات الحجم والعرض، وفي الأشكال الهندسية من مستطيلات ومربّعات ودوائر تحويه، وفي توزيعه هو نفسه إلى ما يشبه أن يصبح متوازيات، أو ما يقرب من تشكيل البيت الشعري وبنائه من صدر وعجز.

الصورة
معرض راجعة يا ماما3 - القسم الثقافي
(من المعرض)

هذا التشكيل المتنوّع، في مجموعه على الصفحة، هو ما يجعل منها صفحة، بل ويجعل منها لوحة، وهو الذي يعطي للكلام المرسوم ما ينطوي على القطع والحسم، وما يجعله أقرب إلى المثل والحكمة والتقليد، أي ما يجعل منه تراثاً، وما يجعله جامعاً ومشتركاً ونهائياً، وموعظة وعبرة.

إلّا أنّ عناية الفنّانة بجعله لوحةً قبل كلّ شيء هو ما دعاها إلى أن تُخلي اللوحة أحياناً من الكلام كلّه، وتجعل منها هكذا تشكيلاً معدنياً. عندئذ تغدو اللوحة بحقّ، وننظر إليها، في لونها الواحد وفي فراغها واكتفائها بتشكيلها الحديدي، كما لو كنّا ننظر إلى منحوتة. عمل كاتيا طرابلسي هكذا هو بين النحت والتصوير. اللوحة منحوتة أو ربّما تجعلنا نُفكّر بلوحة اللون الواحد، كما ظهرت في بدايات القرن الماضي، على يد كازيمير ملفيتش وسواه.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون