"جَمال سلبي" لمنصور الهبر: أنشودة الفراغ

02 ابريل 2023
(من المعرض)
+ الخط -

من تجريدنا القليل ــ الذي له سؤاله أو مسألته، كيانُه أو لعبته الخاصة، وداخليتُه، وليس مجرّد تمرين أو درس للتجريد وتمثيل عليه وشهادة له ــ يمكننا القول إن لوحة منصور الهبر، في معرضه "جَمال سلبيّ" الذي أُقيم أخيراً في صالة "آرت أون 56" ببيروت، هي من قليلنا التجريدي. يمكن القول إننا هنا نجد أكثر من مثَل على التجريد، أي إننا هنا أمام لوحة تخرج من نفسها، من تركيبها، من انتظامها، ومن توازناتها، من أسلوبها، تخرج من ذلك، أو تؤسّس منه وفيه، ما يمكن أن نقول إنه روحها وأغنيتها ودمغتها الخاصة، ما يمكن أن نعتبره سؤالها وصيحتها. 

بكلمةٍ نقول إن تجريد منصور الهبر ليس أي تجريد، بقدر ما أنّ له تجريده الخاص، بقدر ما أنه يبني في التجريد ومن التجريد، ما يمكن اعتباره نظرة خاصة للعالم، ما يمكن اعتباره لحظة في العالم ما كان يمكن أن توجد لولا أن للهبر عالمه، لولا أن فنه يملك عالمه.

تناغمٌ في اللوحات لا يبقى منه حضور للجزء، إذ الحضور للكلّ

لا يمكن أن نتوقف كثيراً عند تقنيات الهبر، فلوحته تملك تراثاً من التقنيات، بل هي تَظهر وكأنها خلاصات محاولات تقنية، تذهب إلى أبعد ما يمكن لها أن تبتعد، حتى تصل إلى درجة من التناسب بعضها مع بعض، بل تصل إلى ما يشبه أن يكون محوها وذوبانها في اللوحة. لوحة الهبر تملك من السطوة التقنية ما يجعل هذه التقنيات ــ لنأخذ الكولاج مثلاً ــ قائمة في دخولها العضوي في اللوحة، وفي تقلّبها وأحوالها وتراكبها، بعضها على بعض. إنها هكذا جلية ومقصودة، لدرجة أننا لا نقف عندها، بقدر ما نقف عند تناغم لا يبقى منه حضور للجزء، إذ الحضور للكلّ. الحضور للّوحة التي تكاد في تناسبها، والتمامها على نفسها، وتساوُق أجزائها وأطرافها، أن تبدو، في كلّيتها، أغنية صغيرة، ومعزوفة تامّة.

الصورة
معرض منصور الهبر - القسم الثقافي
(من المعرض)

أي أن منصور الهبر، الذي يطلق على معرضه اسم "جَمال سلبيّ"، قد يعني بهذا السلب لاتماميّةَ هذه الأجزاء، وبُعدها هكذا عن أوّليتها ومفهومها ومبدئها، لتكون، بهذا المعنى، نفياً لنفسها وانقلاباً على مبدئها. ما يبقى منها هو هكذا، وقبل كل شيء، اللوحة التي تكوّنت منها. بل يبدو أن اللوحة، حصيلةَ ذلك التلاؤم، هي نفسها غير أكيدة، بل تنتقل بين الشيء ونفيه، بين البناء القويّ المتناسب المتوازن، وبين نزوع التركيب نفسه إلى درجة من الانحلال، إلى غروب للشكل ونوع من الاستشباح والاستيهام، الذي يؤلّف اللوحة من بعيد وقريب.

اللوحة التي هي في تكاملها واتساقها ودخانية تركيبها وشبحية هذا التركيب تُوجَد بقوة، بقدر ما لا توجد. أي أنها، في إيغالها في لعبتها، أو لنقل: لَعِبِها، تبدو وكأنها تصل، في ذلك، إلى حد من بناء الوهم أو نصب السراب. الناظر إلى هذه اللوحة لن يجد فيها انتهاكاً من أي نوع، ولا تخليطاً من أي درجة. لن يجد فيها أي فظاظة، ولا أي توحُّش، ولا أي جلغمة أو قساوة أو تعنيف شكلي، أو اعتداء على الفن ومنه. لن يجد ذلك، بل قد يجد عكسه تماماً، سيجد أن لوحة منصور الهبر، اذا اتّصفت بشيء، فهو التوازن، توازن إيقاعي بحيث تتحوّل اللوحة معه إلى فعل إيقاع، وبحيث يبدو أن الإيقاع هو درسها الأول ومراسها وبغيتها.

لوحة منصور الهبر، من هذه الناحية، هي عمل أيقونيّ، هي تحفة صغيرة. الحرّية التي تقوم عليها هذه اللوحة ــ وهي حرّية واسعة ــ لا تنفي أبداً أنها تبني هكذا ما يكاد يكون نسقها وتركيبها. هذان يوجدان بقوة أنْ لا يوجدا، يوجدان بلعبة الاختفاء وبلعبة المحو، وبلعبة الذوبان، بحيث يبدو أن كلّ عنصر في اللوحة ينحلّ في غيره ويتكامل معه، بحيث لا يعود هو نفسه ولا يعود الآخر نفسه أيضاً.

الصورة
من المعرض - منصور الهبر - القسم الثقافي
(من المعرض)

الكولاج مثلاً، في لوحة الهبر، موجود فقط في انحلاله، وفي ما يشبه أن يكون محوَه. ما يبقى من الكولاج هو شيءٌ آخر أكثر قابلية للاندماج في اللوحة، وأكثر قدرة على الإيحاء بهذا الزوال وذلك المحو. إنه موجود أكثر في سلْبه، وما يبقى منه لا يعود يحمل ببساطة اسمه. إنه توازن بين الامتلاء والفراغ في اللوحة، هذا التوازن في أصل اللوحة التي في فراغها تكاد تبقى نفسها، أو تكاد تُحيل إلى نوع من أنشودة الفراغ.

هكذا تبقى اللوحة في حال من التوهُّم هو مصدر قوتها. لا نحاول أن ننظر في تلك الأجزاء من اللوحة التي تبدو خرتشةً، أي تبدو متمرّدة على نفسها وعلى الشكل كله. نرى أن اللوحة هي أيضاً هذا السلب، ومن محاولات كهذه تبني التوهُّم الصغير، تبني التحفة الصغيرة، تبني اللوحة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون