حيث الباصات الحمراء ذات الطابقين

حيث الباصات الحمراء ذات الطابقين

18 أكتوبر 2022
حافلات ذات طابقين تعبر "جسر الشهداء" فوق نهر دجلة، بغداد 1978 (Getty)
+ الخط -

(1)

كنتُ قد سبقت عائلتي إلى بغداد قبل عام، ثم عدتُ لمرافقتهم إليها بعد أن قرّروا ترك تلك القرية إلى الأبد. صبيّاً كنت، بذاكرة تسكنها حكايات الجدّات الوقورات. وما زلتُ أذكر، حتّى هذه اللحظة، ذلك الليل الذي غادرنا فيه قريتَنا مروراً بمدينة الكوت وعبر جسرها الضيّق الوحيد، المَبنيّ في أواخر الثلاثينيات كما أظنّ، وباتجاهٍ واحد. وكم كنّا نستمتع بمنظر الماء، حين نأتي إلى هذه المدينة، وهو يندفع من الجانب الأيمن للجسر مُكلّلاً بالزبد الأبيض وحشود السمك الرماديّة التي كانت تُصارع التيّار عنيفة لامعة.
 
في تلك الليلة كان الظلام من نمط خاص، كثيفاً مُترعاً بحنينٍ وتوجّسٍ لاذِعَين: الحنين إلى قرية أحاول انتزاع قلبي الصغير من طينها وهوائها الممتزج ببكاء أهل القرية، والتوجّس ممّا سيجيء، كيف ستبدو بغداد ملموسة مرئيّة، بعد أن عشتها وتعايشت معها، قبل أن أراها، على فراشٍ من الحلم ومبالغات الخيال؟
 
في ذلك المساء، كانت قريتي تختلط بالليل وبكاء المودّعين، وكنّا جميعاً، أسرتي وأنا، نحاول التغلّب على هواجسنا الغامضة. هل كان أهل القرية يبكون لنا أم علينا؟ أية أسرة هذه؟ وأي نداء يدعوها إلى عبور هذا الليل الكبير صوب مدينة لا يعرفون عنها شيئاً: مدينة تُدعى بغداد؟ كانوا يصافحوننا بأصابع باكية وإشفاق لا حدود له، وكانت بغداد تُشرق، عبر مخيّلتي الصغيرة، نائية، وراء الليل والنجوم الباردة. كان لها، في وجداني، صورة من نوع ما، نسجتها مخيّلة خرافية، شُحنت بسرديات الجنّ ومفاجآت "ألف ليلة وليلة" التي كانت تتسرّب إلى ذاكرتي ممّا ترويه أمي أحياناً. وكانت بغداد، عبر ذلك المزيج كلّه، تنتسب إلى كلّ ما هو مترفٌ أو محيّر. 

مدينة لا تقع على الأرض حتماً، بل على تماسٍّ حميم، مع نقطة ما من مخيّلة كلِّ واحدٍ منّا ربما، وكنّا نظنّها مدينة حُلميّة. لم يكن هناك من رآها من القرويّين، أو تحدّث إلى أحد العائدين منها. كان معظمنا يتخيّلها نقطة بين الحياة والموت، محطّة في الطريق إلى مدينة النجف؛ حيث الموتى يُزاحم بعضهم بعضاً، وحيث المنائر العالية تعطّر الهواء بالدمع والذهب ورائحة الغياب. وربما كان خوف أهل القرية علينا نابعاً من إحساسهم هذا. كانت بغداد، بالنسبة إليهم، اقتراب من عالم آخر: غامض ولا نهائي، فاكهة محرّمة على القروي القادم من الجنوب. قد يمرّ منها، في الطريق إلى النجف حيث مرقد الإمام عليّ، ولا يراها؛ وكان على الموتى الجنوبيّين أن يمرّوا عادةً بمحاذاة بغداد، وهم يتّجهون إلى أسرَّتهم المعجونة بالدمع والتُّراب. كانت تلك التهيُّؤات من صنع طفولتنا وأوهامنا البيضاء.

خصمان أزليّان: الفقر والثراء يشتبكان في جوار مقيت

كان الباص الخشبيّ القديم يئنّ وسط ليل طوله 180 كم يمتدّ بين الكوت وبغداد، وكنّا نسمع ارتطام السيّارة بالظلام والحُفر والمخاوف. سيّارة وأسرة صغيرة: أسرة من الأحلام، ومن الندم ربّما. لم تكن بغداد، بالنسبة لنا كلّنا، أكثر من ضوء غامض يتحرّك في أعماقنا جميعاً. يبدّد خوفنا وندمنا تارة، ويوقظهما تارة أُخرى، لكنّه كان يُنعش أحلامنا وتوقّعاتنا أحياناً: أطفال يذهبون إلى المدارس كلّ يوم، وساحات مضاءة، وأجهزة راديو، وشوارع مبلّطة، وبيوت جميلة بحدائق خضراء، وبشر يرتدون البنطلونات والجوارب والأحذية.

وحين دخلنا منطقة المدائن وهي ضاحية فقيرة من ضواحي بغداد، كانت تسمّى "سلمان باك" وجدنا الفجر في انتظارنا بقدمين حافيتين وثياب مشقَّقة. وعلى جسر ديالى، ذلك الجسر الهرم ذي الممرّ الضيّق الواحد والغارق بالنخيل والفاقة، عبرنا إلى بغداد.

بدا لي وكأن الباص، بأنينه الخشبي المُترب، قد ضاع وسط تلك الشوارع البغداديّة الضاجّة بالحياة، كان الصباح قد أخذ يضيء بساتين المدينة، وينتشر عبر شوارعها وأزقّتها الرطبة حيث الخضرة والشذى البارد. وقد دهشنا لذلك الصباح البغدادي اللذيذ: باصات حمراء كبيرة من طابقين، تنطلق لامعة تحت الشمس، كما دهشتنا كثرة السيّارات الصغيرة والمقاهي، والمطاعم، والمآذن العالية. كان ثمّة أزقة ضيقة، وبيوت قديمة بشناشيل يكاد يحتضن بعضُها بعضاً. وأغنية بغدادية جديدة لرضا علي، عرفت اسمه لاحقاً، تعيد بثّها، أجهزة الراديو باستمرار. اتّجهت بنا السيّارة إلى منطقة الشالجيّة في الكرخ، وهي حيٌّ عمالي، قرب "جامع براثا". كانت تنبعث من مقبرته القديمة رائحةُ حزن خاصة وغمغمة فراق وشيك سيداهم هذه العائلة الوافدة ذات يوم ليس ببعيد.


(2)

كنتُ مفتوناً ببغداد ومجروحاً بسببها في آن، حرمتني من أبي في السنة الثانية لوصولنا إليها، ما كان يهمّني جداً أن أعرف الشيء الكثير عن تاريخ هذه المدينة؛ فقد كانت، بالنسبة لي، حاضراً حسيّاً طافحاً بالطفولة المُبتهجة والمنكسرة معاً. كانت معرفتي بها معرفة جسديّة مَحضة، لم أكن قد علمتُ بعد أن أبا جعفر المنصور هو الذي بناها عام 762. ومع أنّني كنتُ أجهل سبب اختياره بغداد عاصمةً له بعد أن كانت الهاشميّة هي العاصمة، فقد كنتُ أعلم تماماً دواعي هجرتنا نحن إلى هذه المدينة. كانت بغداد - آنذاك - حُلماً لآلاف القرويّين القادمين من قُرى الجنوب خاصة، هرباً من أيامهم المُعذّبة حيث الإقطاع والفقر والغناء الشبيه بالعويل، وكانت - بالنسبة لنا ولسوانا - فرصة لحياة مختلفة.

ولم تكن بغداد في الخمسينيات مدينة متجانسة، بل كانت تشتمل على أزمنة متضادّة، وأمكنة يُشاكس بعضُها بعضاً: كان الخصمان الأزليّان: الفقر والثراء يشتبكان في جوار مقيت. وقد التقط الجواهري، هذا التناقض الموجع حين قال في قصيدته عن أبي العلاء:

لَكِنَّ بِي جَنَفَاً عَنْ وَعْيِ فَلْسَفَـةٍ... تَقْضِي بِأَنَّ البَرَايَا صُنِّفَتْ رُتَبَا

كانت الأحياء الجديدة تنشأ باستمرار، وبغداد تتّسع وتسيل يوماً بعد آخر: تكتنز بالحياة، وتُغذّي في الناس توقّعاتٍ كنتُ أجهل طبيعتها في تلك السنّ. تتفاوتُ أحياؤها حداثة وثراءً. وتحتوي، داخل كيانها الواحد، بيئات اجتماعية وثقافية ونفسية متبايِنة. 
تتوسّط المناطق الحديثة، في بغداد، أحياء منهكة يسكنها المهاجرون من الجنوب: بيوت طينيّة تتمسّك ببعضها بعضاً خوفَ الانهيار، مثل: الشاكريّة، العاصمة، المنكوبين. قُرىً مهاجِرة تمزِّقُ تجانس المدينة، وتفضح ثراءها وعجرفة بعض أحيائها: 

تلك الطفولةُ خضراءَ كانتْ
وخضراءَ حتى المـشـقّةْ... 
فكيف حملنا قُرانا القديمةَ؟
ننشرها في الضواحي... 
نقيــمُ لها حُلُـماً... 
وفوانيسَ شاحبةً، وأزقّةْ..

كنّا نعيش في حيّ الشالجية، بمنطقة العطيفية، على ما تبقّى لدينا من قيم القرية، حيثُ القرابات أو الصداقات الأولى، والانتماءات إلى ذات البيئة، يجرُّ بعضها بعضاً، أما إذا خرجنا من هذه المنطقة، إلى فضاءات أوسع، فلا تظلّ تلك القيم على ما كان لها من جلال لا مسوّغ له أحياناً إلّا امتدادها في عروق الآباء ومزاج الأمّهات أو تعاساتهن أحياناً.

طالما فرّقت أمي بين هواءين: هواء الله وهواء الحكومة

كانت أمي تتصرّف وكأنّها ما تزالُ تتشمّم هواء قريتنا البعيدة، حيث يؤسطرُ أهل القرى عاداتهم في التعبير عن الفرح والألم على حدّ سواء. كان من عادات أمّي أن تحتفي بسردياتٍ تغلغلت في روحها حدّ الرسوخ المبجّل: نخبوية السُّلالة، وميراثها من فجيعة الأجداد، والحقد على القتَلة! ولم تدرك تلك الأم الطيّبة، بعد، أن زادها من تلك القيم الغابرة يوشك على النفاد، في هذه البيئة الجديدة، إلا في ذلك اليوم الذي لا ينسى. كنت مع أمي، عائدين من زيارة والدي الراقد في "مستشفى المجيدية" في الباب المعظم.

كنّا في الطابق الأوّل من الباص الأحمر العالي، الذي يُدعى، شعبياً، باص الأمانة، نسبة إلى أمانة بغداد. كان مزدحماً بما لذّ وطاب، وتخالفَ وتآلف من الناس، وأنا برفقة أمّي في ذلك الازدحام الشديد وفي بداية ظهيرة متوقّدة. ولدٌ صغير يكاد يغيب في نسيج عباءتها ولمعتها الحائلة بسبب القِدم والغبار اللّاهب.

صعدت امرأة بدينة وعلى درجة عالية، كما سيظهر، من سوء الخلق، علاوة على ما تنوء به من قبح الهيئة. كلّ شيء فيها ينمّ عن ذلك: برطمان غليظان يحيطان بفمٍ كبير محشوٍّ بعظام متراصّة دونما نظام. شقّت طريقها وسط الزحام بقوّة لا تخلو من عدوانية وغِلْظة، وألقت بجسدها الثقيل عليّ دونما شفقة. قالت أمي، ببراءة ريفية واضحة، وهي تراني أتلوّى تحت تلك الجثة الضخمة: السيّد يكاد يختنق! بدت كلمة "السيّد" غريبة، ربّما، على كلّ من كان في الباص، باستثناء أمي بطبيعة الحال، التي ما تزال حاملة بعادات القرية في المخاطبة وتوقير السُّلالات، أو ما تراه هي كذلك. فقد نطقت تلك الكلمة بنبرة شديدة الوضوح، ومشوبة بشيء غير قليل من الشجن أو الانكسار. 

لكن المرأة البدينة لم تبادر إلى تعديل شيء مما فعلته، لم تُلملم جثتها المترهّلة، ولم تعتذر عن سلوكها الفج. بل فاجأت ركاب الباص بصفيرٍ زاعقٍ، خرج من بين براطمها الضخمة كعفطة عنز. حركة فيها من التعهّر وسوء الخلق ما يفوق طاقة صبيٍّ مثلي، لم يغادر سنوات براءته، على التحمّل. وهكذا كُسر في داخلي منذ تلك اللحظة شيءٌ ما، كان قابلاً للنمو، بيني وبين هذا المكان الجديد. وسيزداد هذا الشرخ اتساعاً بعد أن شهدتُ ما كانت تخبّئه الأيام لوالدي.


(3)

لقد كانت هذه الأحياء تحتفظ بفقرها وأغانيها وعاداتها الريفيّة في الحياة والزواج وصلة القُربى، وتمدُّ حياة المدينة بالحركة، وتلبّي حاجاتها المتزايدة إلى العمَالة الرخيصة. ومع ذلك فقد خرج من هذه الأحياء الشعبيّة عددٌ لا يُستهان به من الأدباء والشعراء والفنّانين والسياسيين الذين كانوا، فيما بعد، عصبَ الحياة الثقافية والسياسية والشعرية في بغداد. لكن هذه الأحياء من ناحية أُخرى احتفظَت بالكثير من الموروثات والعادات، التي جعلت التحاقها بالحياة الجديدة بطيئاً أو متأخّراً أو مرتبكاً ربّما. ظلّت محميّات حصينة لانتماءات قبلية أو مناطقية أو انزياحات وجدانية لا تتزحزح. وكانت هذه الأحياء، في جانبي الكرخ والرصافة على حدّ سواء، مناطق جاذبة للمهاجرين من جنوب العراق أو غربه أيضاً.

وجدنا الفجر ينتظرنا بقدمين حافيتين وثياب مشقَّقة

ويعود للزعيم عبد الكريم قاسم، الذي قاد "ثورة الرابع عشر من تمّوز" في العراق، الفضل في توزيع الأراضي السكنيّة مجاناً على سكّان هذه الأحياء لبناء دُور حديثة لهم في مدينتين جديدتين هما: الثورة في شرق بغداد، والشعلة في غربها. وبذلك اختفت من بغداد نهائيّاً تلك الأحياء التي كان يتعايش فيها البشر مع الغبار وبعوض المستنقعات.

كان تبعثر الأحياء الجديدة قد ترك فجوات من المساحات الخضراء: مزارع الخسّ، وبساتين النخيل والفاكهة التي تغسل بخضرتها الداكنة نهاراتِ بغداد وسماءها الجافة. غير أن الاتساع الجنوني للمدينة وتشابك أذرعها الإسفلتية، أدّى إلى اختفاء تلك المساحات، وحلّت محلّها - شيئاً فشيئاً - البيوت الجديدة، أما السكن العمودي فلم يكن يلائم - في تلك الفترة كما يبدو - ذوق العراقيّين ومزاجهم الميّال إلى البيوت المستقلّة، التي تعزّز إحساسهم، إلى أقصى حدّ مُمكن، بحريّتهم الخاصة. وظلّ التوسّع العمراني الحديث ينتشر بسرعة وتهوّر ليقضم في طريقه تلك الجُزر الخضراء، ويعتصر ما فيها من طراوة ريفيّة هانئة.

في "مدرسة المسعودي"، في جانب الكرخ، أخبرنا معلم الجغرافية ذات يوم أن السنة تتكوّن من فصول أربعة، وأن الربيع واحد منها. ومع الأيام أدركتُ أنّ هذا الكلام بعيدٌ ما عن الحقيقة تماماً؛ كان فصل الربيع هذا من ورقٍ وحبر في الغالب، لا نجده إلّا في الكتب. فصل جهنميّ قد يطول إلى ستة أشهر أحياناً، وكان بي حنين طاغٍ إلى ربيع بغدادي حقيقي، لكن هذا الفصل العذب ما إن يحلّ بيننا حتى يرحل، أو هكذا أحسُّ، لتهطل علينا، فجأة، سماءٌ من الغبار واللهب، نسمع في ثناياها، أو نكاد، صوت الشاعر العباسي مطيع بن إياس وهو يردّد من وراء القرون:

بلدةٌ تمطرُ الغبارَ على النا... سِ كما تمطرُ السماءُ الرَّذاذا

وبحلول الصيف يكون المزاج العراقي، ربّما، في أشرس حالاته. وليس مصادفة أنّ ثورات العراقيّين وانقلاباتهم، في معظمها، ثورات أو انقلابات صيفيّة.

أخذت بغداد تأكل أجزاءها الطرِية شيئاً فشيئاً، وتقضم ضواحيها الخضراء. كما أن النهر ذاته ما عاد قادراً على ترويض هواء المدينة أو التخفيف من وحشيّته، لقد أحاطت به المباني المتجهّمة، فلم يعد يمسُّ قلوب الناس. إن الكثير من أجزاء هذا النهر الخالد، الذي كان طافحاً بالحياة، ما عاد كذلك غالباً. فهو، في بعض أجزائه، بقيةُ نهرٍ ضائع. كانت شواطئه الطويلة أمكنة حُرّة، مكشوفة للناس جميعاً، للسباحة أو اللهو في بيوت من القصب أو سعف النخيل، تعجّ بالصخب والأغاني المفعمة باللذة والحُرّية. يومها كان هواء النهر حرّاً، شائعاً، وفي متناول الجميع. كان لهم ليلهم الجميل، الذي فقد لاحقاً الكثير من خصائصه وعذوبته، بسبب ما مرّ على المدينة، وعلى البلد كلّه، من ظروف عكّرت أيامهم.

كان شارع أبي نواس يمتدّ على الشاطئ الشرقي لدجلة، يشارك الشارِبين كؤوسهم، ويُضيء سهرهم الصافي. ليلٌ من اللُّطف والكلام البهيج. وكانت أحواض السمك تنتشر على طول الشارع: سمكٌ حيٌّ يلعب، أملس نشيطاً في أحواضه. وقبل أن ينتصف الليل يكون معظم هذا السمك قد شُويَ بتلك الطريقة البغداديّة الشهيّة، حيثُ تُوضع السمكة، على أعواد، في مواجهة نارٍ حيّة، نقية، حتى تنضج. واكتسبت هذه الأكلة البغداديّة، "السمك المسقوف"، شُهرة خاصة لا بين العراقيين وحدهم، بل بين العرب والأجانب من زوّار بغداد.

خرج من الأحياء الشعبيّة عددٌ كبير من الأدباء والشعراء

يُقبل الصيف فيصبح لنسيم بغداد، في الليل، مذاقٌ خاص. يصعد معظم الناس، في الأحياء الشعبية خاصةً، إلى سطوح بيوتهم للنوم على مقربةٍ من نسيم الله: ليلٌ عذبٌ، وسماءٌ تنحني عليهم، لتلمس بنجومها الباردة، أحلامهم وتأوّهاتهم. وعلى أسيجة السطوح وتحت الليل الواسع يبرد الماء في قُلل من الفخّار. وهكذا يمرّ ذلك النسيم الربّاني على نومنا فيجعله طريّاً كنوم الملائكة. وكانت أمي تكره النوم تحت هواء المبرّدات الحديثة لأنه يفسد طعم النوم، كما تقول دائماً. وطالما سمعتها تحدّثنا عن الفرق بين هواءين: هواء الله وهواء الحكومة.


(4)

كانت بغداد، في الخمسينيات، مفتوحةً على الجهات كلّها. ولستُ أدري من أيّ الأبواب أو الجِهات كان دخولنا إليها في ذلك الفجر الخريفي. لقد تعرّفتُ، بعد ذلك، على بابَين أساسيّين لها، يقع كلاهما في جانب الرُّصافة، الباب الشرقي والباب المعظَّم. يمثل الباب الشرقي قلب بغداد الضاجّ بالصخب والحياة. وعلى مقربة منه تمثال لعبد المحسن السعدون، أحد رؤساء الوزارات العراقية في العهد الملكي، والذي مات منتحِراً.

تميّز هذا المكان، لاحقاً، بنُصب الحرّية الضخم للفنان الكبير جواد سليم، وهو جداريّة هائلة خلّدت نضال العراقيين من أجل حرّيتهم. أمّا الباب المعظّم فقد كان، هو الآخر، مركزاً شديد الأهميّة. تقع على مقربةٍ منه معظم كلّيات "جامعة بغداد"، و"الجامعة المستنصريّة". وتقع فيه وزارة الدفاع، و"قاعة الملك فيصل الثاني" التي اشتُهرت بعروضها الموسيقيّة الراقية آنذاك، وكانت لفترة طويلة مكاناً مرخّصاً لممارسة حياة الليل؛ حيث تعمل نساءٌ مُحترفاتٌ، في بيع اللذة لطالبيها من الشباب أو الفاشلين في حياتهم الاجتماعية والعاطفيّة.


* شاعر وناقد من العراق. والنصّ أعلاه فصلٌ من كتاب "إلى أين.. أيّتها القصيدة؟ سيرة ذاتية" الذي يصدر هذه الأيّام عن "الآن ناشرون"

كتب
التحديثات الحية

المساهمون