ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.
"وسمعتُ العُشب البرّي يتنهّد:
لا عودة... لا عودة
مرّة أُخرى".
(جيمس جويس)
بعد ملاحظة الأستاذ المُشرف على المَرسم توقّفتُ عن إكمال اللوحة. حاولتُ تحديدَ مصدرٍ واحدٍ للضوء، وإعادةَ توزيعه على وجهها، وعلى الأشياءِ من حولها بلا رغبة. ربّما لأنّني أحسستُ أنّ الضوءَ الساقط من كلّ الجهاتِ يُنشِئ متاهةً مُحبَّبة بين وجهها وحافة النافذة، والمقعد المُجاور وحوامل اللوحات المُلطّخة بالألوان الجافّة. ربّما ملتُ إلى وضعها تحت شموسٍ عديدة، أي تحت أيام لا تُحصى. ربّما كان الأمر مُجرّد لُعبةٍ، لعبة للانفراد بأُنثى مُنحرفة على مقعدها أمام ثلاثة تلاميذ جاؤوا من قُرى بعيدة بإناثٍ غامضات سيأتين من أيام مجهولة.
السببُ الحقيقي والبسيط هو أنّ الأول الذي أنهى لوحتَه كان قد استحوذَ عليها تماماً، ألواناً وخطوطاً، استحوذَ حتى على فضاءِ الغرفة الذي جعل شفافيّته الحمراءَ تُماثِل شفافية بشرتها الورديّة وشفافية المقعد الأزرق المُعتم. أصبحتْ قدّيسةً ناسكة نائية يميل إلى جانبها غصنُ دفلى بأزهار حمراء مُلتهبة. لم تعُد هناك فتاة يُمكن رسمها أو اصطياد لمحة منها، استحوذَ عليها. لم يعُد هناك ضوءٌ يستطيع النفاذ إلى لوحته. لم يعُد هناك مرسمٌ ورسّامون وأساتذة. استحوذَ عليها تماماً، هي والدفلى الصباحية التي نُصادفها دائماً عند بوّابة الكلّية تتمايل تحت ريح خفيفة، ويتخلّل الضوءُ كثافة أوراقها الخضراء.
بيدٍ هادئة وواثقة ووجهٍ يبدو عليه انشغالٌ كأنما بموضوعٍ آخر، بدأ يضعُ ما سمَّاه "اللمساتِ الأخيرة". يُعمّق محيطَ الوجه والرقبة والكتفين، يُبعدها أكثر عن سطح اللوحة باتجاهِ أبعد نقطة في المنظور، يحوّل شعرها المنسدل إلى غمامةٍ كستنائية على أرضيةٍ حمراء شفافة. يصبُّ سائلاً على غصن الدفلى ويحرقه، فيسيلُ الأخضرُ والأحمرُ ويتجمّد، ويبتعد بضعة أمتار إلى الوراء، ويُعلن أنها انتهت.
ما رأيك لو جِئتني الليلة لنحلَّ كلّ مشاكل الوجود دفعة واحدة؟
هكذا نسيتُ اسم الفتاة. لا أتذكّر سوى جلستها المُنحرفة ونسماتٍ من شعرها المتطاير، وهو يتحوّل إلى غمامة. ثلاثة تلاميذ ورائحة التربنتين تملأ المكان، المقاعد واللوحات وقمصاننا وأصابعنا، وتظلّ زمناً طويلاً بعد أن نُغادر المرسم.
- "الواضح أنك رسمتها في أوقات مختلفة".
- "بل في صباح واحد فقط".
لا يلتفت الأولُ الذي بدأ يستعدّ للمغادرة كأنّ الأمر لا يعنيه، أما هي فظلّت عيناها مُعلّقتين به دون أن تعدل من جلستها.
في مثل ذلك الصباح، وبعد سنواتٍ، ستندفع إليّ جين ما إن ينفتح باب شقتها، وتلتصق بي عابقة برائحة دفلى بعد ليلة مُمطرة، تسحبني إلى جوار المدفأة الحجرية، المدفأة نفسها التي أصغَت إلى قصيدتي عن الحبّ الأول، والإله الأول، وأنا أحدّق باللهب المتراقص بين أخشابها في أواخر الليل.
أسرابُ الدوريّ تحطُّ مثل خيمةٍ مُرتجفة على الشُّجيرة الصغيرة، ووراءها شفَقٌ على حافّة العتمة، ونحن في طريقنا إلى التلّ البعيد. يحدث هذا في كلّ ليلة وعلى حدود الفجر ربّما، في مكانٍ ما على مسافة عشرين ربيعاً أو أكثر. يحدث ويتكرّر مثل مشهدٍ يختبئ فيه نبعٌ مجهول. لا تظهر الشمس، كأنّ حقول الذكرى تأخذُها ملائكةٌ خفيّةٌ دائماً، ترحلُ بها من دون أن نشعر أو تشعر الأمكنة. شربنا وضحكنا وتجوّلنا وكدنا نبكي من ألمِ الاشتهاءات التي لم تغمر الروح حتى جذورها.
أسرابُ الدوريّ تطيرُ في سماوات بعيدة فوق بحيرة نخيل، تتماوج تحت مرمى أنظارنا من شرفة خلفيّة تطلّ على حديقة منزلية مُتشابكة الأغصان فوق ظلال رطبة ومُعتمة. في تلك اللحظة حدث شيء غير متوقّع، بدأ زميلي ينتحب فجأةً، ويُنهنه وهو يُشير إلى الأسراب البعيدة مثل معتوهٍ فقَدَ حاسة النطق، ولم يعُد يستطيع سوى الإيماء واجتذاب نظري إلى شيءٍ ما لا أدري ما هو: نحيبُه المفاجئ أم نقطة بعيدة لامرئية؟
لا أفهم ما يُومئ إليه، ولا يفهم بدوره ما الذي يعنيه البكاءُ على مشارف العشرين أمام مشهد عصافير الدُّوريّ في أعماق الفضاء. كلانا أصغر من أن يدرك ما يُمسك فينا هذا الحسّ بالفناء والزوال.
تعترض جين بنبرة قاطعة ومُشفقة:
- "لو تترك الفلسفة يا صديقي لسارتْ أحداثُ نصّك بشكلٍ مختلف".
- "وهل في روايةِ مشهدٍ فلسفةٌ من أيّ نوع؟".
تقاطعني وارتجافةٌ تسري في صوتها:
- " توقّفْ عن هذا، ما رأيك لو جِئتني الليلة لنحلَّ كلّ مشاكل الوجود دفعة واحدة؟ قل نعم... أو لا...".
شجيرة ُ الدفلى عند بابها تعني الصيف، أما الشتاء فله مغزىً آخر، مئات الليالي الماطرة أو الليالي الثلجية أو الليالي الصافية فوق وادٍ عميق ترقدُ بين تعرّجاته طليطلة وجسرها الحجري القديم.
- "لا".
كتبتها أمامها على الورقة وبحروف كبيرة، فغامتْ خضرةُ عينيها وتدحرجت دمعةٌ مُدهشة ثم أُخرى.
ما كدتُ أطوي أوراقي وأتهيّأ للنهوض عن طاولةِ نادي الكلّية حتى لمحتُها مرّة أُخرى. كانت هناك منذ زمن طويل، تقف جانباً وبين يديها كتبُها، لا تتطلّع إلى أحد سواي. الشمسُ على وشك مغادرة ساعة الصباح الأخيرة، لا تزال أشعّتها تُضيء زجاج النوافذ، فتجعل شكلها ظلّياً لا تظهر معه ملامح وجهها. لا شيءَ سوى مُحيط جسدها وشعرها المُضاء الساكن.
ينصحنا الأستاذُ بالتسجيل في أكاديمية الفنون، في القسم المسائي.
- "أنتم ترسمون أفضلَ من تلاميذ الأكاديمية".
هذا هو مرسمنا، سأقودكِ إليه يوماً، إلى الفراغ الذي تركه في أعماقي
ومع قليل من التدريب وتحت إشرافه يُمكننا أن نبثّ الحياة في صور أحلامنا، نحن أكثر رغبة لأننا هُواة، الشاعرُ هاوٍ عظيم للحياة... إلخ. أفكّرُ بأجواءِ الأكاديمية اللَّزِجَة، ورائحةِ الأخشاب والفراغ المتثاقل بين ممرّاتها، والقلّة المتناثرة من التلاميذ على مقاعد حديقتها الخلفية، وذلك الفنّان الذي فاجأنا مستلقياً على ظهره في قاعة المعرض، وهؤلاء المتجوّلين ببناطيل تُشبه أكياس الخيش مع الفتيات الجميلات. أفكّرُ بما يعنيه أن تتثاقل أيضاً، وتمرُّ عليك الظهيرةُ ونسائمها بين الأشجار، أو خلف نافذةٍ تطلّ على حديقةٍ مُهملة تتناثر فيها تماثيلُ صدئة ولوحات نصف عارية.
يقول الزميلُ الثاني بشيء من الحماس.
- "لا نظريات في الأكاديمية، ممارسة فقط، لن نتعب فنحن فنّانون بالفطرة".
لم يكن شعره الخفيف وفكّه المتصلّب مثل فكّ مُصارع ُيوحي بأنّ غايته الفنّ، ربما كانت غايته الهرب من الكلّية. حماسُه الذي بدا لي بلا رصيد جعلني أتجنّب صحبته بعد ذلك طوال سنوات.
هذا هو مرسمنا، سأقودكِ إليه يوماً، إلى الفراغ الذي تركه في أعماقي من دون أن أسمع نفسي أنتحب فيه، لا شيءَ سوى هذه الحُمرة القانية، حمرة أزهار الدفلى، وألسنة اللهب الخفيفة، وهي تتموّج بين أخشاب سوداء، لا شيءَ سوى قطرات مطر مُلتمعة. الجسدُ الظلّي لفتاة الانتظار الطويل يضيء محيطه ضوءُ شمسٍ صباحية.
تناديني ليلى... ليلى... هذا هو اسم فتاة المرسم يقفز فجأة من الظلِّ الذي كانت تجلس فيه على مقعدها في أقصى الحديقة. تنتبه جين وتُصاب بالدهشة.
- " كيف تذكّرت بعد كلّ هذه السنوات؟".
- "ربّما هو الفراغ... ذكرى الفراغ".
- "واصل القراءة... واصل...".
أيامُ المرسم انتهت والكلّية تكاد تُغلق أبوابها، ها هي وحيدة نائية تُثير شفقتي
وتسند ذقنها بيديها، وهي مُستلقية بصدرها على السجادة، وعيناها تُحدّقان ساهمتين باللهب المُتراقص.
كنتُ في طريقي إلى بوّابة الخروج، ولمحتُها وحيدة هناك، وواصلتُ سيري، وقبل أن أصل إلى البوّابة كانت تُناديني باسمي، ولأول مرّة كأنما منذ بضعة قرون.
أيامُ المرسم انتهت، والكلّية تكاد تُغلق أبوابها، ها هي وحيدة نائية، تُثير شفقتي. هل أستولي عليها فعلاً؟ لوحتها في زاوية غرفته الرطبة الآن متوحّدة أيضاً.
- "أراكِ وحدك؟".
- "اجلس معي".
وأوسعت لي مكاناً إلى جانبها.
- "غادر الجميع، فالإضراب عمّ كلّ شيء، لا أدري هل سنكمل هذه السنة أم لا؟".
- "لا أدري...".
- "ماذا ستفعل؟".
- "ربّما أُغادر الكلّية إلى الأبد، لا يبدو أنّ لهذه الإضرابات نهاية".
- "وأنا سأعود إلى مصر".
أستاذُ الابتدائية الأسمر الساخر يجلس على حافة الطاولة، بينما يرتفع الضجيج خارج أسوار المدرسة، وتمتدّ يدٌ تلوّحُ من وراء السور. أحد الأساتذة يغلق البوّابة.
- "لا زلتم صغاراً وهذه أمور لا تعرفونها الآن، سيقال لو أمسكوا بأحدكم خطيّة... لا... خطيّة حطّه في القوطية!".
لم أفهم شيئاً، وبخاصة هذه القوطية، رأيت فقط تلك اليد الملوّحة من وراء السُّور.
العشبُ يتماوج في الحديقة المُقفرة، لا أحدَ سوى عدد قليل من التلاميذ يتجمّع في زاوية بعيدة، لا تصلنا أصواته.
وقالت ليلى فجأة: "سأسافر على أية حال".
لم أعلّق. السفرُ كلمة تتسلّل من صفحات رواية أو قصيدة، أو عبارات متناثرة لتلاميذ جاؤوا حديثاً من أسماء... أسماء أمكنة في هذا الكون... وتضيف: "حياتنا هنالك أجمل... هؤلاء لا أدري بماذا أصفهم".
أختي الستينية تهتف فجأة: "دفلى... دفلى..!".
الشريطُ الساحليّ يعجّ بأشجار الدفلى بين آونة وأُخرى، والبحر أزرق يكاد ينفتح لولا بيوتٌ متزاحمة تقطع مشهدَه بين مسافةٍ وأُخرى. ألمحُ عصافير الدوري حين يكون الجوّ صحواً، أما حين يهبُّ الغبار فلا أثر حتى لأشباحها، إنها تلهو في القصائد أكثر ممّا تلهو في الطبيعة، وتزقزق في الذاكرة أكثر ممّا تُزقزق في شجرة السدر البيتية.
ذات نهار وفي باحة البيت، حين تملأها شمس الظهيرة، وتلتمع المياه الرقراقة بين الأعشاب وتتجمّع حول جذع السدرة الظليلة، تسكنُ العصافير، ويظهر أحدها منفرداً يقفز في أرجاء الباحة، ويهرب إلى الظلّ حين تبدر حركةٌ من غصنٍ حرّكته ريح عابرة.
تتهاوى الآن مدنٌ كثيرة كما في الماضي، ولكنّنا لا نراها لأن منظورنا قصيرٌ وضيّق جدير بسرب من النمل في أحضان جبال هائلة.
"وحتى الماضي، ما الذي ندرك منه نحن النمل الذي يُدهشه ارتفاع شجيرة الحمّص، تلك التي يُقال إنّ كلّ مئة من شعب ياجوج وماجوج سيستظلّون بواحدة منها؟".
بهذه اللهجة نصف الساخرة ونصف الحكيمة كتب زميلُ الغرفة المنتحِب أمام نقطة غامضة في الفضاء، قبل أن يُسافر إثر الإضراب الطلّابي الكبير، ويترك بين أوراقي دفتر ملحوظات مُتناثرة. أما كيف تستثير الدفلى شهقة الحسرة وذكرى الأفراح التي لم ترَ النور، فأمرٌ لا يزال يحيّرني. لا شكّ في أن معناه أنّنا لسنا نملاً مُندهشاً، ولا وجوهاً مُنتحبة على مشارف العشرين.
- "سيكون للبكاء وقتٌ كما للفرح وقت".
تعلّق جين ساهمة مقاطعة جملتي الأخيرة .
على شُرفة أكاديمية الفنون طاولةٌ، وجنديّ مظلّي مدّ ساقيه بحذائه الضخم في مواجهة الشارع والناس. أيقنتُ أنّ شيئاً غير مفهوم يحدث، وأنّ خطأً ما جعل مثل هذا التلميذ يُواصل عملَه العسكري، فيجلس على الشرفة وبندقيّته تتدلّى من كتفه. ما علاقة الأكاديمية بالانقلاب العسكري الذي حدث منذ شهر؟ ربّما كانت الأكاديمية هدفاً مقصوداً لطلبة فاشلين في الرسم والنحت، فارتدوا بزّات عسكرية واحتلّوها انتقاماً من أساتذتهم، أو انتقاماً من المنحوتات الجميلة التي أسالت لُعابهم وتلمّظوا أمامها وهي تتكِئُ على زوايا الحديقة.
- "تمّ إغلاق قسم الدراسات المسائية".
وتمّ إغلاق شيء في الهواء يُشبه رائحة النخيل، وشبكة القنوات التي ترويها منذ الخليقة. لم يتغيّر شيء من ملامح الأستاذ المتهدّلة وهو يتلو الخبر، وواصل تمرير ريشته ببُطء على أشباح القرويات الملفوفات بالسواد، القرويّات المتناثرات على قُماش لوحته منذ زمن بعيد تحت إضاءة وحيدة محدّدة بدقّة، وسماءٍ كابية يشوبُها الاحمرار.