القصّة الأخيرة

القصّة الأخيرة

17 فبراير 2023
"الشاعر الفقير"، لـ كارل شبيتزفيغ، زيت على قماش، 1839
+ الخط -

الحنفية تقطرُ ماءً...

سأسمّيها حنفية وليس صنبورًا؛ استذكارًا للتسمية التي جاءت من إقرار الحنفية بجواز استخدام هذا الاختراع. أمّا مَن حرّموها، فلم يكن ما فعلوه إلّا لعطفٍ منهم على السقّائين الذين بدأوا يخسرون رزقهم، من وراء تلك الحنفية.

لو رجحتْ كفّة السقّائين يومها، لَما كنتُ أُعاني الآن من صوت ارتطام القطرات في المرحاض، ولَتمكّنتُ من كتابة القصّة الجديدة.

حاولتُ إصلاحها منذ عدّة أيام، لكنّني لم أتمكّن من ذلك، وأضعتُ الجِلدة التي ابتعتها بلا طائل. فشددتها إلى درجة أنّني لم أعد أستطيع فتحها ثانيةً ولم أتمكّن من غسل مؤخَّرتي، التي أهرشها منذ أيام كسجناء الباستيل قبل الثورة الفرنسية، ولا يتوقّف ذيلي عن الهزّ استرضاءً لها كذيل كلبٍ شَبِق، ومع ذلك لم تتوقّف عن التسريب.

لو كانت قصصي تَلقى بدلاً نقدياً لأصلحتُ الحنفية، ولَما استطاع وضْعُ المؤخَّرة أن يُسيطر على حالة الرأس إلى هذا الحد.
الرأسُ مُغلقٌ بطبيعة الحال بلا واسطة الذيل وما يُخفيه، ومَن يُقيّم قصصي المجانية، يطالب بإشعال اللهيب في شؤونها الباردة. فأصبحتُ أحمل قدّاحة معي أينما ذهبت رغم أنّني لا أُدخّن السجائر، حملتُها ولا أزال، لكي أُضرم النار في أفكاري لعلّها أذابت جليدها، لكنّني لم أُفلح.

لعلَّ القصة انتهت مساحتها هنا أو ربما في الفقرة التي سبقتها

تعمّدتُ شراء قدّاحة يُمكن إعادة تعبئتها، أملًا بأن أشعل بها قلب السرد لمدّة أطول. لكنَّ الرأس شدَّ الوثاق، واستعصت عليَّ مغاليقه فأصبَحَت القدّاحة عالة على جيبي، وبهذا أثقلتُ ميزانية العمل الأدبي المجّاني الذي أقوم به دون نتيجة. فلجأتُ إلى التدخين أخيرًا، لا يزال لساني محترقًا من التجارب الأُولى.

أسمّيها قدّاحة وليس ولّاعة، فهذا الاسم يُذكّرني بالقدّاح وزير أبي عبيد الله المهدي أوّل الخلفاء الفاطميين وأول أئمتهم. القدّاح هو أساس الإمام الناطق بالحق، أو الباطل، تبعًا لذوق السارد ورغباته. وأنا ابتعدتُ عن الاختيار بين هذه المواقف والتزمتُ الحياد فأصبحتُ باردًا.

ليس أمامي سوى أن أكتب قصّة ينتحر الراوي في نهايتها. سأنتحر في جميع قصصي القادمة فأصبح القاصَّ المنتحر. وسأفاجئهم في أساليب انتحارٍ في كلّ مرّة توازي العنف في قصص إدغار آلان بو. وسأبدأ بالانتحار غرقًا بماء قطرات هذه الحنفية اللعينة التي سقط فيها رأسي بدلًا من مؤخَّرتي، وغَرِق بسبب ثقله الذي أحدثه هذا الانغلاق، فأنعتق من هَمّ هذه الحياة المجّانية.

ولمّا كانت قصصي لا تُطبع كاملة، حيث تنتهي المساحة المُتاحة في الجريدة، توجّب عليك بالتالي لحاق الباقي المُعلّق في أثير بعيد. لعلَّ القصة انتهت مساحتها هنا أو ربما في الفقرة التي سبقتها أو ستنتهي في الفقرة التي تليها.

عمومًا آن الأوان لوصف عملية الانتحار، يجب أن أقوم إلى المرحاض وأن أجدَ سببًا يدفعني لتشطيف رأسي بقطرات تلك الحنفية تحديدًا. لكن لحظة... ما الذي يحدث؟ حبر قلمي يجفّ! تبًّا، لن أستطيع شراء قلمٍ أو حبرٍ الآن، لأنَّ ميزانيتي الأدبية ذهبت لإعادة تعبئة القدّاحة. كيف سـ   بذلـ  مـ  أنّنــ...


* كاتب من الأردن

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون