أصواتٌ عربية من إسبانيا: غربٌ استعماري كيف نعوّل عليه؟

أصواتٌ عربية من إسبانيا: غربٌ استعماري كيف نعوّل عليه؟

30 أكتوبر 2023
تظاهرة تضامنية مع فلسطين بتنظيم اتحاد طلبة إسبانيا، مدريد، 26 تشرين الأول/ أكتوبر (Getty)
+ الخط -

يفرز العدوان الإسرائيلي على غزة حربين. الأولى، عسكرية تنفّذها "إسرائيل" بقصف المباني وتدمير المدن وقتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ في غزة. والثانية، حربٌ ثقافية - إعلامية، تقوم بها بعض الأنظمة الغربية التي يتبنّى قادتها الرواية الصهيونية. تجد هذه الحرب، بوجهيها العسكري والثقافي، كثيراً من المؤيدين في أوروبا والولايات والمتحدة. والأخطر أنها تجدّ أيضاً مؤيدين من بين المثقفين في الغرب. ومهما كانت صفة هؤلاء المؤيدين، فهذه ظاهرة ثقافية خطيرة، وربّما غير مفاجئة، خصوصاً في ما يتعلّق بالصراع الفلسطيني - الصهيوني.

أقول إنّها غير مفاجئة، لأننا نستغرب، أحياناً، عندما ننتظر نحن العرب، من أوروبا والولايات المتحدة مواقف متفهّمة ومتضامنة وراعية. فإذا قمنا بمراجعة تاريخية بسيطة للقرن المنصرم، سندرك أننا لم نظفر إلّا بالخيبات، على تعددها وتنوّعها، بدءاً من وعد وبلفور، وانتهاءً بغزو العراق بحجة محاربة الإرهاب. والقائمة تطول وتطول. قد تكمن أسباب هذا الانتظار في رهاننا على مبادئ الحداثة الأوروبية التي تقوم على "الحرية" و"حقوق الإنسان". ولكن، كشف العدوان الإسرائيلي على غزّة، كما كشفت جرائم الكيان الإسرائيلي سابقاً، أنّ الحرية وحقوق الإنسان هي امتيازاتٌ لمن يمنحُها الغرب فحسب. وها هم الفلسطينيون الذين ناضلوا تحت شعارات حقوق الإنسان والحرية يتركون اليوم لجرائم الإبادة الإسرائيلية المستمرّة في فلسطين، والتي تمكن مقارنتها بأكبر فظائع القرن العشرين.

تحدّثت "العربي الجديد" مع عدد من المثقفين العرب من كتّاب وشعراء ومترجمين وروائيين يعيشون في هذا الغرب، تحديداً في إسبانيا، وسألناهم كيف عاشوا هناك هذا العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة، وكيف واجهوا الحرب الثقافية- الإعلامية الصهيونية التي تبنّته غالبية الدول الأوروبية. كذلك سألناهم عن دور المثقف العربي الذي يعيش في الخارج، وعن دورهم. 


أحمد يماني: مشكلة أوروبيّة بالأساس

الصورة
أحمد يماني
الشاعر المصري أحمد يماني

يدعو الشاعر المصري أحمد يماني إلى العودة للتاريخ، إلى ضرورة معرفة الأسباب التي تدفع الغرب لتبنّي مثل هذا الخطاب، يقول لـ"العربي الجديد": "الصراعات الكبرى تستدعي، بالضرورة، وسائل متعدّدة لإدارتها على مستويات عدّة. ولعل الصراع العربي مع الكيان الصهيوني يتطلّب معرفةً عميقة بهذا الكيان. وكما يؤكد الدكتور فوزي البدوي الباحث المرموق في الدراسات اليهودية، فإننا في الحقيقة لا نتوفر على معرفة عميقة، لا بالديانة اليهودية ولا بالفكر اليهودي.

أسبابُ تأييد الغرب للكيان الصهيوني متعدّدة، ولها جذور تاريخية، سواء أكانت تلك الجذور على علاقة باليهود أنفسهم، أم على علاقة بالبلدان الغربية نفسها ذات التاريخ الاستعماري. المشكلة اليهودية كانت بالأساس مشكلة أوروبية وحاولنا نحن حلّها، بدءاً من طرد اليهود السفارديم في إسبانيا، والذين لجأوا كما نعرف إلى بلاد عربية وإسلامية. نحن لا نقول ذلك للرأي العام ولا للأجيال الجديدة في الغرب. لكن الغرب نفسه متعدّد، وإذا كانت معظم الحكومات مؤيدة أو على الأقل متعاطفة مع إسرائيل، فإن هذا لا ينسحب على الشعوب الغربية، ولا حتى على بعض أعضاء هذه الحكومات. وإذا كانت الآلة الإعلامية الصهيونية ذات تأثير كبير، فإن هناك الكثير أيضاً من الإعلاميين من أصحاب الضمائر الحيّة ممن لا يرضون بتزييف الحقائق". 

وعن الدور الذي ينبغي على المثقف أن يقوم به، يقول يماني: "أعتقد أنه من المفروض أن نبدأ نحن من أنفسنا. لا بدَّ أن تكون لدينا إجابات مقنعة للعالم في ما يخص الرد على الأساطير الإسرائيلية، من أرض الميعاد وهيكل سليمان وما إلى ذلك. هناك العديد من الباحثين بالغي الأهمية في هذه الحقول، لكن التشابك العقائدي بين اليهودية والإسلام يمنع تأثير هؤلاء الباحثين على مستوى كبير. الأمر نفسه ينطبق على المسيحية. فإذا كان الغرب يعود إلى الفلسفة اليونانية باعتبارها الأساس المعرفي له، أو مرجعيته الفكرية، فإنَّ اليهودية - المسيحية هي أيضاً أساس معرفي كبير في الغرب. سيكون علينا أن نفك تلك التشابكات وأن يكون لدينا خطاب معرفي نقدّمه للعالم، وهذا الخطاب قد يفوق في قوته الخطاب السياسي، وفي أقل الأحوال فإنه يعضده، لأنه سيكون واقفا على أرض صلبة".


عبد الهادي سعدون: عار أن ندير وجوهنا

الصورة
عبد الهادي سعدون
الشاعر والروائي العراقي عبد الهادي سعدون

الشاعر والروائي العراقي عبد الهادي سعدون هاجر إلى إسبانيا في تسعينيات القرن الماضي. يعرف جيداً المجتمع الإسباني، يقول لـ"العربي الجديد": علينا الاعتراف قبل كل شيء أنَّ موقف الإسبان عامّة، والمثقف الملتزم خاصة، يكاد يكون أفضل بكثير من مواقف الكثير من الدول العربية في مناصرتهم لفلسطين ودفاعهم وتظاهرهم وشجبهم لما يجري من تصفية قذرة ودنيئة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. الشواهد كثيرة، وهي ليست الأخيرة. إسبانيا في مدريد وبرشلونة وغيرها من المدن الكبرى خرجت للتنديد بما يجري من جرائم قتل جماعي للفلسطينيين في غزة، وهو ما لم تشهده الكثير من دول أوروبا، بل إنّ أغلبها منع هذا النوع من التظاهرات والتأييد للحق الفلسطيني بالعيش على أرضه.

وهذا ما لم يحصل في إسبانيا بسبب المواقف الجامعية الواعية لما يجري على أرض الواقع، خلافاً لما يتم بثه في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية". غير أن سعدون يدرك أنّ هذه المواقف على أهميتها ليست إلا مبدئية وقليلة التأثير، يقول: "إنها مواقف هامّة، نعم، لكنّها تبقى قليلة التأثير قياساً لسيطرة اللوبي اليهودي أو أصدقاء "إسرائيل" على واقع الإعلام الأوروبي، وإسبانيا لا تخرج عن هذه الحقيقة. لكنّنا، بين حين وآخر، نقرأ موقف مثقّف، أو فنان أو سياسي أو جهة إعلامية شجاعة تتبنّى خطاً آخر غير ذلك المعتاد الذي لا تخرج عنه أغلب القنوات التي تبثّ الأخبار التي يتبيّن لنا وكأنها واردة من جهة واحدة، وهدفها تلميع وجه "إسرائيل" وماكنته الحربية. أحياناً نفاجأ بأن هذه المواقف تجيء من وسط يميني، وإن كانت الأغلبية ذات توجّه يساري، سواء في إسبانيا أو أميركا اللاتينية الناطقة بالإسبانية".

ويشيد سعدون بدور المثقف في هذه الظروف، عبر "مشاهد البيانات والتظاهرات الثقافية والكتابات المناهضة، أو عبر مهرجانات وملتقيات أدبية عالمية توضح الحقائق وتعبّر عن واقع الشعب الفلسطيني المضطهد، وهذا ما عملناه هنا في إسبانيا، وما حدث أيضاً في أميركا اللاتينية، إذ تذكّر العالم أن هناك من يقتل جماعياً. من العار أن ندير وجوهنا عنهم أو أن نتجاهل كل هذه البشاعة والقبح البشري".


مي عطفة: فكر شمولي مرعب

الصورة
مي عطفة
المترجمة السورية مي عطفة

المترجمة السورية مي عطفة تكاد لا تصدق هذا الزيف الأوروبي - الأميركي، إنه، بالنسبة لها، يؤسّس لعالم نازي وفاشي. تقول لـ "العربي الجديد": "نحن أمام سيناريو أوروبي وأميركي تنطبق عليه معالم النازية والفاشية والفكر الشمولي المرعب. أشعر وكأنني أعيش ما عاشته المفكّرة والفيلسوفة حنة أرندت (1906-1975)، التي جُرّدت من جنسيتها الألمانية بعد سيطرة الحزب النازي على الحكم في ألمانيا، حيث اضطرت أرندت إلى الهروب لفرنسا ومن ثمّ إلى أميركا. فرنسا ذاتها التي يمكنها الآن أن تجرّد اللاعب كريم بن زيمة وغيره من جنسيتهم لوقوفهم العلني والشجاع ضد كيانٍ صهيوني مُحتل ومُعتدٍ. 

نحن من هاجرنا إلى أوروبا أو أميركا نشهد انحطاطاً أخلاقياً وازدواجية في معاييرهما السياسية والثقافية والاجتماعية. إلى أين سنهاجر الآن؟ ربما علينا أن نقوم بالهجرة العكسية، أن نعود إلى أوطاننا العربية، فهناك على الأقل إذا حملنا علم فلسطين وهتفنا بحريتها لن يسكتنا أحد، ولن ينتزع أحد علمها منّا عنوة. ولن نُزج في السجون بتهمة معاداة السامية أو نشر الكراهية".

تتابع عطفة: "ما يثير الاشمئزاز حقاً هو هذا التضليل الأميركي الغربي الذي نشاهده في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي! إنّهم يشوهون حقيقة القضية الفلسطينية. إنّ أميركا والغرب، على حدّ سواء، يدركان تماماً أنّهما المسؤول الأول وليس الأخير عن هذا الصراع.

وأقول ليس الأخير لأننا، نحن العرب، نتحمل أيضاً مسؤولية استمرار هذا الاحتلال، لكنني لست بصدد الحديث عن موقف العالم العربي من القضية الفلسطينية. أرى بوضوح وقاحة الغرب. أرى تعاليه على كل من لا ينتمي أو يدافع عن فكره الاستعماري الإمبريالي والانتهازي. من الغباء أن نُعوّل على الغرب الأوروبي، كيف لنا أن نفعل هذا وتاريخه كما تاريخ أميركا قائم على نهب وسلب خيرات الشعوب". تقول عطفة ذلك معتذرةً عن تشاؤم رؤيتها للواقع، لكنها محقة: "فلا شيء تغيّر: الصراع بين الاستبداد والحرية التي ناضلت من أجلها حنة أرندت ما زال قائماً في بلدان هاجرنا إليها توهماً منّا بتفوقها الفكري والإنساني وبأننا سنعيش فيها أحراراً".


ميسون شقير: جرح كل عربيٍّ

الصورة
الشاعرة السورية ميسون شقير
الشاعرة السورية ميسون شقير

الكاتبة والشاعرة السورية ميسون شقير تشكك في قدرة الإنسان على تجاهل ما يحدث من مأساة. تقول لـ "العربي الجديد": "لا أعتقد أن أي إنسان يحمل في داخله الروح الإنسانية الفطرية قادرٌ على أن يتجاهل ما يفعله المشروع الصهيوني في غزة. ولا أعتقد أنَّ أيّ عربيّ، أينما كان يعيش في بلاد الله الضيقة، قادرٌ على مواصلة حياته بشكل طبيعي أو ولنقل بشكل ما، والشاشات تنقل وبشكل مباشر، هذه المحرقة والإبادة والوحشية التي تثقب قلب كل من يراها، وفلسطين هي جرح كل عربي لا يموت".

وتعترف الشاعر السورية أن العربي المهجّر عن أرضه لأن الاستبداد بكل أشكاله قد حكم عليه بالرحيل، يعيش الآن ممزقاً وهشاً في العمق، لأنه يرى البلاد التي هاجر إليها واستقبلته من الموت، بحجة الحياة، تصمت، أو حتى تدعم في خطابها الرسمي قاتل الأطفال في غزة، وهذا يشبه أن تتلقّى خنجراً في خاصرتك ممن وقف معك.

تقول شقير: "ككاتبة عربية مقيمة في إسبانيا، أعيش هذه الإبادة في كلّ ثانية، في صحوي، في عملي، في الطريق إلى العمل، في البيت، في التظاهرات التي تخرج هنا ضد الإبادة، في نقاشي مع أولادي، في الحماس والقهر والخذلان الطالع من عيون أولادي، أعيشها في أُمومتي المجروحة بكل صرخة طفل، في أنوثتي المعطوبة بكلّ نواح امرأة، بإنسانيّتي المدمّرة تحت كلّ ركام، وأعيشها في لغتي وقصيدتي التي لا أعرف كيف سأستطيع أن أحميها من الموت مرّة ثانية، بعد أن ماتت هناك تحت الركام في حلب وادلب وحمص. مرة ثانية يتقمّص الموت أعمارنا ومفرداتنا ووجوه أطفالنا، لأن عالماّ نذلاً أعمى وأصم يغضّ الطرف عن كل هذا ويمضي. وأنا واثقة أنه يمضي نحو الهاوية وبخطى واثقة".

أما عن دورها كمثقفة، تضيف شقير: "ربما هو نفسه دور الإنسان الحقيقي في هذه الظروف، في أن يتبع إنسانيته ويعلن وبكل الطرق، انضمامه للضحية، وانتماءه لعدالة الدفاع عنها، وبما أنّه يمكن للمثقّف أن يمتلك وسائل خاصّة، لذا فهو قادر أكثر من غيره على إعلان هذا الرفض، وعلى تعرية السردية المعادية، وعلى المحاجة الدائمة بحق المظلوم الذي يعيش ولا يعيش، تحت آخر احتلال حقيقي على سطح هذا الكوكب، حقه في أن يرفض هذا الاحتلال، والأهم حقه في أن يعيش بكرامة".

تتابع شقير: "المثقف هنا يجب أن يكون حاضراً في التظاهرات، وفي الندوات، والبيانات، وأن يستغل كل وسيلة جامعية أو إعلامية متاحة، ويؤكد على حق الضحية في الحياة. وأن يواجه المجتمع الغربي بقيمه ذاتها المتمثّلة بالدفاع عن حقوق الإنسان، وعن حقوق الأطفال وحقوق المرأة بشكلٍ خاص، وأن يستفيد من حرية الصحافة هنا، ومن تعدّد الجمعيات المدنية والأحزاب، فبصوته، وكلمته، وقلمه، وحتى بأسنانه يجب أن ينتمي دائما، كما يقول محمود درويش، لسؤال الضحية".


محسن الرملي: خطاب يحرّض على الإبادة

الصورة
الروائي العراقي محسن الرملي
الروائي العراقي محسن الرملي

الروائي العراقي محسن الرملي يعيش منذ صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في حالة إنذار. يقول لـ "العربي الجديد": "منذ صبيحة السابع من أكتوبر وأنا في حالة إنذار، لا ليلي ليل ولا نهاري نهار. أوقفت كلَّ أنشطتي الكتابية والثقافية، ورحتُ أتابع مختلف وسائل الإعلام باللغتين العربية والإسبانية، بشاشتين أمامي على مدار الساعة. كان عليّ أن أستوّعب ما يحدث أولاً، فهالني انفجار الخطاب الغربي المليء بالعنصرية والعنف والكراهية وازدواجية المعايير. خطابٌ يحرّض على الانتقام والقتل والتدمير بلا أية مراعاة لأية قيم إنسانية أو حقوق إنسان أو قوانين دولية، بما فيها قوانين الحرب.

لم تكن نصرة أو دعوة لحرب، وإنما للإبادة. وكان عليّ أن أفعل شيئاً لمواجهة هذا الجنون والانحدار الأخلاقي والإنساني. وليس لدي، بالطبع، سوى الكلمة. فرحت أضم صوتي إلى العقلاء منهم وأدعمهم عبر وسائل التواصل، والتوضيح والتوعية في محيطي العائلي والاجتماعي والعمل الأكاديمي، رغم ما في هذا من أخطار التعرّض للاعتداء اللفظي، أو حتى الجسدي أو في العمل. ولكن السكوت على هكذا خطاب مرعب سيتحوّل إلى تسونامي يضر بإنسانية الإنسان في كل مكان، ما لم تتم مواجهته بالوسائل الممكنة، ورحت أشارك في المظاهرات والتواصل مع الأصدقاء المثقفين والإعلاميين، وأعبّر في وسائل التواصل رغم شدة المراقبة والمنع والتشويش.

أعتقد الآن بأننا، وبالتعاون مع اليسار والطيبين والمنصفين الإسبان، بتحشيد اعتراضنا على هذا الخطاب الدموي، قد استطعنا أن نؤثّر فيه ونكشفه ونهدئ من غلوائه والتنبيه إلى خطورته. علينا الاستمرار في ذلك. وبشكل عام فإن غالبية الناس في إسبانيا متعاطفون مع القضية الفلسطينية، لكنّ الخطاب الإعلامي والرسمي كان قوياً متناسقاً مع بقية الخطاب الغربي، إلا أنّه سرعان ما راح يفرز نفسه ويعدّل من موضعه، بل إن بعض أعضاء الحكومة اليسارية الآن صاروا يقومون بهجمة مرتدة، إذا جاز التعبير، ووصل الأمر بوزيرة الحقوق الاجتماعية إلى أن تطالب بمحاكمة نتنياهو على جرائم حرب".


باهرة عبد اللطيف: حصار الصوت

الصورة
الكاتبة والأكاديمية العراقية باهرة عبد اللطيف
الكاتبة والأكاديمية العراقية باهرة عبد اللطيف

الكاتبة والأكاديمية العراقية باهرة عبد اللطيف تعترف بالأزمة الثقافية التي يعيشها المثقف العربي والغربي أيضاً. تقول للعربي الجديد": "في هذه الأيام التي ننشغل فيها جميعاً، على المستويين العربي والدولي، وقبل ذلك الإنساني، بما يحدث في غزة من مجازر صهيونية إثر عملية "طوفان القدس"، التي نفذها مقاتلو حماس، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ثمّة محنة أخلاقية يعيشها المثقف العربي بعامة، والمثقف الذي يعيش في الغرب على وجه الخصوص، حيث سياسة الكيل بمكيالين تتمثل في أبشع تجلياتها وانعدام أخلاقيتها. فالمثقف العربي يعاني ضغوطاً كبيرة تصل إلى حد تهديد حياته ومصدر عيشه، ولعله يحسد زميله المثقف العربي المقيم في الغرب، نظراً لحرية التعبير التي تكفلها له الدساتير الغربية والتي تبشّر بها النظم السياسية الغربية، إلا أنه لا يدرك مدى تراجع مساحة هذه الحرية منذ عقود في مواجهة الأحداث العالمية والأزمات الدولية، وآخرها الحرب الروسية -الأوكرانية. ويوماً بعد يوم أخذت تتعالى الانتقادات التي توجهها هيئات ومنظمات حقوق الإنسان من داخل المنظومة الغربية نفسها بهذا الصدد". 

تتابع عبد اللطيف: "على الصعيد الشخصي، تتنبه فجأة إلى ظهور خطاب معادٍ يواجهك به أشخاص كانوا لطفاء معك حتى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، من زملاء وأصدقاء ومعارف، وحتّى من طلبة درّستهم لأعوامٍ اللغة والثقافة العربية في الجامعات الإسبانية، وهم يرددون بحمية خطاب الصهاينة: "إن حماس منظمة إرهابية، وإسرائيل تدافع عن نفسها!".

فجأة تكتشف أن عقولهم أغلقت على أي حقيقة خارج خطاب "الضحية" الذي نسجته الدعاية الصهيونية والذي اكتسح الغرب والعالم من خلال محرقة اليهود على يد النازية. عبثاً تحاول أن تقنعهم بأن ضحية الأمس باتت جلاد اليوم، وأن ما يفعله الصهاينة بالفلسطينيين لا يقل وحشية عن ممارسات النازية ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكيف أنّ العالم كله حارب النازية ومحا أثرها وأنهى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بينما تقف النظم الغربية متفرّجة أو مباركة أفعال الصهاينة في جرائم إبادة الشعب الفلسطيني المتكرّرة، وآخرها في غزة. عدا عن مساندتهم بالسلاح والمال والدعم الإعلامي!".

وتتابع عبد اللطيف، مؤكدةً أن الغرب ليس كتلة واحدة منسجمة، بل ثمة نظم وحكومات وشعوب وأحزاب وتيارات من اليمين المتطرف حتى اليسار المتطرف، ومواطنون يجهلون أو يتجاهلون ما يحدث خارج عالم الرفاهية الذي صمّمته أوروبا لمواطنيها بعد حربين عالميتين استنزفتاها. تقول: "لا بدَّ من الإشادة بمواقف أنصارنا من القوى التقدمية، فهم "رئتنا التي نتنفس بها في الغرب"، كما قلت يوما للراحل خوليو أنغيتا، زعيم تحالف اليسار الموحّد، يوم خرجنا في تظاهرة عملاقة مناوئة للحرب على العراق شملت معظم المدن الإسبانية، وكنّا نتقدمها جنباً إلى جنب مع عشرات الآلاف من المواطنين الإسبان من القوى التقدّمية المناهضة للحرب. هؤلاء هم حلفاؤنا وعزاؤنا في فيضان العداء المتجدّد مع كل نكبة تحلّ بعالمنا العربي. وهم من خرج في هذه الأيام في تظاهرات واحتجاجات شملت مدناً إسبانية عدّة، تضامناً مع أهل غزة الصامدين".

أمّا في ما يخص الثقافة والمثقف، فتقول عبد اللطيف: "ثمّة محنة أُخرى تواجه المثقف العربي أو الغربي المناصر للقضية الفلسطينية، وهي محاصرة صوته، وقد تابعنا حالة الإعلاميين المستقيلين، أو المُقالين، في هذه الأيام من المؤسسات الإعلامية الغربية احتجاجاً على عدم نشر تغطياتهم الإخبارية من الجانب الفلسطيني أو حجب بعضها. وحتى عندما يكون هناك رأي لكاتب أو سياسي غربي منصف، فإنه يُبث في ساعات متأخرة جداً من الليل عندما يكون عدد المشاهدين أو المستمعين في أدنى مستوياته. في هذا السياق تابعت اللغة الإعلامية لبعض هذه القنوات، وهو اهتمام تولّد لدي مع غزو العراق عام 2003 ورافقني حتى اليوم، وتيقّنت، للمرة الألف، أنَّ الرأي العام الغربي ما زال محكوماً بما تبثه وسائل الإعلام التقليدية من أباطيل تستقيها من وسائل الميديا العالمية التي تتحكم فيها اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا". 

وتضيف عبد اللطيف: "تستحق اللغة المستخدمة في وسائل "اللاإعلام" المسمومة دراسةً متأنيّة، إذ يصبح فيها قصف الصهاينة للفلسطينيين في غزة "عملية دفاع عن النفس" من قبلهم. أمّا الشهداء الفلسطينيون فهم "أضرارٌ جانبية". كانت هذه المصطلحات هي نفسها التي استخدمتها قوات الاحتلال الأنغلو - أميركية في غزو العراق وتدميره. ولا تتوانى نشرات الأخبار عن تسمية "الكيبوتز"- وهو أهمّ مؤسّسات الاستيطان الصهيوني في فلسطين ووجه العملة الآخر للمستوطنات اليمينية المتطرفة - بـ"المزرعة Granja" التي يقطنها مدنيون آمنون يعملون في الزراعة وتربية الحيوانات! 

وحول متابعة الحرب الصهيونية على غزة، يُعلن عنها في الأخبار المقروءة والمكتوبة بـ"الحرب في الشرق الأوسط"، لتجنّب ذكر "إسرائيل"، كما يُطلق على قطعان المستوطنين المتطرفين بـ "الضحايا المدنيين"، ويصبح ضحايا الحفل الموسيقي المنظّم في مناسبة دينية يهودية "ضحايا حفل موسيقي أقيم من أجل السلام"!  وأمّا الصراع الصهيوني - العربي الذي تحوّل منذ سنوات إلى صراع إسرائيلي - فلسطيني؛ وقد كُرّست التسمية هذه حتّى في الإعلام العربي، فقد بات يدعى بـ"صراع حماس - إسرائيل"، وبهذا تنحسر مساحة الصراع لتصبح بين إسرائيل "الديمقراطية" و"منظمة حماس الإرهابية". فكيف لا يساندها الغرب؟"

وتختم الكاتبة والأكاديمية العراقية: "هكذا يمكن المضي في تحليل الخطاب التضليلي للإعلام الغربي الذي يصوّر الوقائع وفقاً للإملاءات الصهيونية لكسب تعاطف الرأي العام الغربي ودعمه. لذا، فإن المثقف العربي الذي يعيش في الغرب مطالبٌ بالكثير: إذ فضلاً عن البحث عن حلفاء مؤثرين يتفاعلون وينشطون لصالح القضية الفلسطينية، لا بدَّ له من استثمار منصات التواصل التي امتلأت بفيديوهات وتقارير إخبارية وشهادات حيّة من غزة، وأغنتنا بمواقف إنسانية مشرّفة من كل أنحاء العالم، دعماً للشعب الفلسطيني المقاوم وإدانةً لوحشية الصهاينة. هذا على الرغم من إجراءات التقييد والحجب التي امتدت إلى هذه المنصات على نحو متزايد، لأنها أولاً وأخيراً، تخضع للهيمنة الإمبريالية وقوانينها.

واجبنا الأخلاقي كمثقفين وناشطين يملي علينا السعي لنشر الحقائق، ودحض الأكاذيب الصهيونية، وإيصال صوت المقاومين الفلسطينيين، وفضح عمليات الإبادة التي نفّذها الكيان الصهيوني العنصري، ولا يزال يرتكبها ضد أهل غزة المقاومة التي تنزف في أثناء كتابة هذه الكلمات، إذ تناضل وحيدةً بلا دعم عربي رسمي أو حماية دولية، في حين يحظى العدو الصهيوني بأقصى دعم توفّره له الإمبريالية الغربية وحلفاؤها".


خاتمة: في ضوء ما تقدّم

يبدو، في ضوء ما تقدّم، أن الكلمة بدأت، هي أيضاً، تتحوّل في الغرب إلى مسألة أمنيّة. فالسياسة التي تقوم على تسخير اللغة وتحويل الكلمة من أداة تعبير وحرية عن الإنسان، إلى أداة للرقابة والمنع والقمع، هي سياسة طغيان، لا تولّد إلا مجتمعاً عبداً وموطناً خاضعاً. وكل بلاد لا تؤسس للحرية وللكلمة الحرّة لن تنتج إلّا ثقافة الطغيان. يعرف المثقف العربي - الذي هرب من طغيان بلاده العربية إلى الغرب بحثاً عن حرية الكلمة والتعبير- ذلك جيداً. لكن يبدو اليوم أن تلك البلاد التي وعدته بقيم "حرية التعبير" و"حقوق الإنسان" تكشف له عن فساد في الضمير وازدواجية خطابها في كل ما يتعلّق بفلسطين. وهي في ذلك تؤسس لثقافة الطغيان. وها هو الطغيان يضرب بوجهيه، العسكري والثقافي، وجه الشرق، فلسطين. 

المساهمون