هذا الحنين إلى الديكتاتورية

هذا الحنين إلى الديكتاتورية

03 يوليو 2018
+ الخط -
هناك قناعة لا تتزحزح بأنّ ما يربط شمال وادي النيل وجنوبه ليس مجرد نهر أو أرض، وإنّما رباط سرّي تتحكم فيه مشاعر التقارب والتباعد، المحبة والتضاد، ومهما حاول الناس الفصل بين الأحداث هنا وهناك، ثمة أقدار أكبر تتحكم في مصائر البلدين، كأحداثٍ موازية أو كالصدى ورجعه. الخطير أنّ صبر الناس في وادي النيل على حدّ سواء قد بدأ ينفد، حتى علت صيحاتهم، وباتوا يحنّون إلى عهودٍ ديكتاتوريةٍ، يصورونها بشكلٍ أقلّ ظلماً من عهديهما الحاليين. والأخطر هو تكلّس النبرة الاعتراضية واللامبالاة واليأس من تغيير الواقع، فبينما ينشغل عامة الناس في معركة البقاء بمطاردة وسائل الكسب والرزق، تنقسم النخب الفكرية والثقافية إلى فئتين، إحداهما تستخدم مواهبها للدعم والتماهي مع الطغيان، وأخرى تقوم بتهميش دورها والانسحاب من الحياة العامة، راضيةً مطمئنة، تجنباً للخوض في وحل السياسة، متناسين أنّ أي دورٍ يقومون به هو ما سيحدّد حيواتهم، ومصائر الأجيال من بعدهم.
تعكس هذه الصورة القاتمة وحدة العقل الباطن لرغبات الشعبين بحلم استعادة الديمقراطية، وتشتّت هذه الرغبات على أرض الواقع ما بين الاستكانة والرفض الخجول. عمل تعثّر الطريق نحو تحقيق الديمقراطية وإخفاق بعض المنطلقات على فتح الباب على مصراعيه أمام التيارات المناهضة للتحرّر من ربقة الديكتاتورية، خصوصا التيارات الدينية التقليدية، وبالطبع المؤسسة العسكرية. يُمكن أن يُقبل هذا بحكم تكوين هذه التيارات، وتطور قوالب بنائها وتسلسلها في خدمة الديكتاتورية في كل العهود منذ الاستقلال، وتقلبها في خدمة السلطان بالمزايا العديدة، أما أن يأتي هذا الاسترجاع من أفراد الشعب العاديين المغلوبين على أمرهم، فإنّ القضية تحتاج إلى أكثر من وقفة.
تعلو أصواتٌ في مصر، في وسائل التواصل الاجتماعي، كما في الكتابات ناطقة بالحنين إلى عهد حسني مبارك بشعارات التأسف له، ثم الاحتفاء بنجليه في المناسبات العامة. وتحنّ أصوات في السودان إلى عهدي الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر النميري، وكلاهما انقلبا على نظامين ديمقراطيين من اختيار الشعب. هذه الاجترارات لاستعادة أمجاد الديكتاتوريات السابقة، وإعادة الاعتبار إلى قادتها، تحت ستار المقارنة بأنّ زمانهم أنضر، هي مقارنة مجافية للوقائع، فقد أذاقوا الشعب الأمرّين، وحدثت حالات مجاعة وضيق ومسغبة، وردع وصل إلى حدّ إعدام المناوئين.
هذا الشعب الذي يتبادل صور رؤسائه الديكتاتوريين السابقين، ويتداولها مع صور لينين وعبد الناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وكاسترو، يريدون أن تبقى صور هؤلاء لتحكم فقط ،لأنّهم لم يقتنعوا بضرورة الديمقراطية بشكل واضح. أما القلة التي اقتنعت فليست لديها الشجاعة للتغيير، بالإضافة إلى الكسل الفكري، وعدم الاستعداد لتجريب جديد، ما يدعو إلى التقاعس وانخفاض الهمّة.

هذه التيارات الساعية إلى تبييض صفحة الديكتاتورية السابقة، والدفاع عن عهدها وخطّها، تمارس نوعاً من الهروب العكسي إلى الماضي، نتيجة العجز عن تغيير الديكتاتورية الحالية. ولأنّ مجابهة الاستبداد تحتاج إلى كثيرٍ مما يعدّه هؤلاء ضرباً من المستحيل، فإنّهم يلجأون إلى حيلة وتكتيك نفسي يريحهم قليلاً، ويغنيهم عن تكبّد مشقة التغيير وعنائه. ولم يأت هذا الشعور الجمعي من فراغ، وإنّما بعمل دؤوب من آلة الاستبداد التي تتفنّن في القمع وتكميم الأفواه والسيطرة، حتى وصلت بهم إلى ما وصفه ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" بتعبيره عن تقويض استقلالهم، وتهشيم حرياتهم، ومحو شخصيتهم، لتعمل لصالح هذه الآلة وتخدم منطقها، بل وتتبنى أطروحاتها. وربما وصل الأمر إلى ما ذكره عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، حيث يجري تطويع الأجيال، وتطبيعهم بالاستبداد، بحيث يولدون ويقضون وهم يعتقدون أن الحياة وُجدت كذلك، وأن دورهم الأوحد: الطاعة، والتواري، والتحفظ، والمحاذرة، والامتلاء بيقينٍ لا يشوبه شك من أنهم مُدانون، حتى لو ثبتت براءتهم. فإذا تعيش على أرض يحكمها مستبد تظل حياتك كلها منّة وفضلاً من الحاكم وأعوانه.
لتفسير كيف تعمل آلية الحنين إلى العهود الديكتاتورية السابقة، يشار إلى أنّ الحنين في الأساس يكون إلى قوالب التكوينات السياسية، مثل هياكل الأنظمة، سواء أكانت للدولة الواحدة أو إلى النظام الدولي بأجمعه. والفكرة العامة لسير هذه النُظم ليس بتحرّي أيهما أنفع، ولكن بالنزوع نحو الماضي، أيّاً كان شكله، ليكون مخلّصاً من حمولات ثقيلة. لم ينجح شعبا وادي النيل في اكتشاف علّتهما الأساسية، وهي احتياجهما الملح إلى كثير من التغيير والتحسين.
إذن، تتعلق المسألة بالجانب النفسي أكثر منها بالجانب الواقعي، إذ يمثّل الحنين إلى الماضي شكلاً هروبياً من مظاهر البؤس والاضطرابات المستشرية في واقع اليوم. ولكن الحقيقة الناصعة أنّ النظر إلى الوراء لا يحقّق لنا ما نريد، لأنّ لا أحد على تمام التأكد من أنّ الأشياء كانت في الماضي على الشكل الذي يتم تصويره وتغليفه على النحو المراد.
ينطوي هذا الحنين على مآخذ عديدة، فمنها كما في الحالة المصرية، كحالة حديثة وفريدة، تراجع الوعي بدوافع الثورة ومكتسباتها، على الرغم من قصر المدة وما حققته من تحرّر، ضعف القدرة على المحافظة على الديمقراطية المتحقّقة، واستعجال مرحلة الاستقرار التي لم تكن لتتحقّق في هذه المدة الوجيزة. ولهذا حدث نوعٌ من الاستكانة، وضعفت الهمم، وتذبذب الحماس، حتى اختطفت الثورة.
في الحنين إلى العهود الديكتاتورية، يتم تزييف الماضي، حتى يبدو استرجاعه منطقياً. ويشكّل ذلك إعاقة تامة عن مواجهة التحدّيات الواقعية، وإيجاد حلولٍ للأزمات القائمة، كتحريض العقل وتحرير الإرادة التي يبدو عبئها ثقيلاً.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.