عن ترحيل السيدة ب من مطار بيروت

عن ترحيل السيدة ب من مطار بيروت

31 يوليو 2020
+ الخط -

قبل أن تبدأ الزعبرة المبتذلة المألوفة، بخصوص صحة الإجراءات التي اتبعتها سلطات أمن مطار بيروت الدولي وسلامتها، بحق السيدة ب وابنتها، فإن ما فعلته هذه السلطات هو أولاً مستنكَر ومُدان، ولا يمكن الدفاع عنه، مهما كانت الذرائع، على الإطلاق. خلاصة الحكاية أنه، من بين جميع ركاب الطائرة القادمة من الإمارات المتوجهين إلى سورية، منعت سلطات مطار بيروت، ليلة الأربعاء في 29 يوليو/ تموز الجاري، سيدةً فلسطينية مُسنةً وابنتَها (واثنين أو ثلاثة آخرين كما قيل لي) من حملة الوثائق السورية، من مواصلة طريقهما الى دمشق، واحتجزتهما في المطار بقصد اجبارهما على العودة من حيث أتتا، وأنها أرغمتهما بالفعل بعد ساعات على العودة على متن الطائرة نفسها، على الرغم من اعتراضهما، وربما مقاومتهما، وعلى الرغم من كل الإجحاف والصّغار البادي في القصة. 

في تفاصيل الحكاية أن السيدة ب، وهي معلمة متقاعدة في سورية، ولا تقيم في الإمارات، كانت وابنتها في زيارة عائلية لهذا البلد، واحتجزهما فيروس كورونا هناك طوال الاشهر الماضية، أي انقطعت بهما السبل إثر إغلاق المطارات وتوقف حركة السفر. هكذا تدبرّتا طوال هذه الفترة أمور إقامتهما وتكاليفها كيفما اتفق. والأنكى أنهما خسرتا بطاقة عودتهما إلى دمشق، بما في ذلك ثمنها، لأسباب أجهلها، وإنْ كنت أرجح أن المسألة قد تتصل بمشكلات رامي مخلوف وممتلكاته (منها شركة طيران أو أكثر) مع سلطات دمشق.

السلطات اللبنانية لا تكفّ عن سياستها التمييزية، كي لا نقول العنصرية، تجاه الفلسطينيين

حين سنحت للسيدتين إمكانية العودة إلى بيتهما في سورية، وتوفرت رحلة من الإمارات عن طريق بيروت، أبلغتهما الشركة الناقلة أنها ستنقلهما بالحافلة مع جميع الآخرين من المطار إلى دمشق، وبالتفاهم مع السلطات اللبنانية. ولكن ما حصل أنه في مطار بيروت، وحدهم الفلسطينيون الذين لم يسمح لهم بعبور بلاد الأرز، ومرافقة الآخرين من غير الفلسطينيين المتوجهين إلى دمشق.

.. تبدو الأمور المتصلة بالفلسطيني في لبنان كما لو كانت عصية دائماً على التصديق، و/ أو لا تندرج في باب الممكن أو حتى المحتمل. إذ كيف يمكن لك أن تتخيّل أنك ستمنع وحدك من مواصلة الرحلة، على الرغم من كل الضمانات والتأكيدات؟ 

كتب الفرنسي جان بوبيرو، في العام 1970، أحد أهم الكتب المناصرة لفلسطين بعنوان "جنحة أن توجد"، ويقصد به أن الفلسطيني لم يرتكب أي خطأ كي يقتلع من أرضه ويشرّد ويهجر. خطأه الوحيد أنه وجد على أرضٍ يريد آخرون أن يستولوا عليها. والحقيقة أن الأمر الذي وصفه بوبيرو ينطبق، من غير لبس، على الفلسطيني في لبنان. وكنت أعددت دراسة موثقة قبل 25 سنة عنونتها "ثمن البؤس"، نُشرت في كتاب جماعي مع الحقوقي محمد أبو حارثية وفيوليت داغر عن فلسطينيي لبنان. وكانت عن تحولات النظرة الرسمية اللبنانية إلى الفلسطيني، وبالأصح عن الهوة التي كانت تتسع بين المُعلن والمُضمر، بين القول والفعل، وعن العنصرية التي كانت تفصح، أكثر فأكثر، عن نفسها في الخطاب والممارسة.

لا يريدون الفلسطيني في لبنان. يعملون كل ما في وسعهم فعله كي يرحّلوه عن هذا البلد السعيد، كي "ينظّفوا" لبنان منه

والحقيقة أن الإدارة اللبنانية، على مر العهود وتقلباتها، أظهرت ثباتاً لافتاً في النظرة إلى الفلسطيني، وأنها، حين يصبح متاحاً لها أن تفصح عن مكنونها، لا تتردد في إبراز عنصريةٍ دونها عنصرية جبران باسيل اليوم. هم لا يريدون الفلسطيني في لبنان. ولذلك يعملون كل ما في وسعهم فعله كي يرحّلوه عن هذا البلد السعيد، كي "ينظّفوا" لبنان منه، بحسب تعبير بعضهم. من لا يذكر أقوال جبران باسيل حين عدّد، قبل أيام قليلة، الأخطار التي تتهدّد لبنان ويتوجب اقتلاعها فوراً، وفي المقدّم منها الوجود الفلسطيني في لبنان؟

لا يهم بعد ذلك إن كان الفلسطيني الذي يتحدّثون عنه جاء لاجئاً، أي مُكرهاً ومطارداً، إلى بلاد الأرز. كتب الرئيس الراحل شارل الحلو، في مذكراته بالفرنسية، في معرض تبريره الحربَ على الفلسطينيين (بالمعنى الحرفي لكلمة حرب) أنّ مخيمات اللاجئين الفلسطينيين تُحاصرُ المدن اللبنانية، وأنها تهددّها استراتيجياً، ولذلك وجب اقتلاعها. 

حين يصبح متاحاً للإدارة اللبنانية أن تفصح عن مكنونها، لا تتردد في إبراز عنصريةٍ دونها عنصرية جبران باسيل اليوم

.. يتعذر تلخيص قصة السيدة ب وترحيلها وابنتها بعد احتجازهما، بالمعنى الحرفي لكلمة احتجاز، في المطار. ذلك أن جذور الحكاية ترجع إلى أن على الفلسطيني في لبنان أن يعيش نكبة إضافية، تضاف إلى نكبته الأصلية، تتصل بحظه العاثر في أنه موجود في لبنان. وأنّ السلطات اللبنانية لا تكفّ عن سياستها التمييزية، كي لا نقول العنصرية، تجاه الفلسطينيين، على الرغم من أن هذه السياسة المجحفة وغير العقلانية لا تضمن للبنان أمنا، وتشكل من حيث هي كذلك، حماقةً لا تليق لا ببلدٍ يقول عن نفسه إنه متحضر، أو بحكومة عاقلة؛ ولا تضمن له غير السمعة السيئة التي يتحاشاها. 

ما عاد ممكناً وصف حكاية الفلسطيني في لبنان أنها عصية على التصديق؛ ذلك أنها تحدُث وتتكرر من غير توقف، وبذرائع أتفه من أن تكون مقنعة. وأنها، اليوم، بحجة كورونا والإجراءات الإحترازية المتصله به، ما عادت تحرص على إخفاء هويتها العنصرية المقززة التي تستهدف الفلسطيني نفسه، بوصفه إنسانا، مع الأسف. 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.