عن استراتيجية مصر في مواجهة الوباء

عن استراتيجية مصر في مواجهة الوباء

16 ابريل 2020
+ الخط -
ليس من السهل فهم الاستراتيجية المتكاملة التي تتبعها الحكومة المصرية في مواجهة فيروس كورونا. المعلومات شحيحة، ولا يتم وضعها في سياق أوسع، كما لا تُتاح فرصة نقاشها بحريةٍ مع المسؤولين المصريين الذين يحرصون على إعلان المواقف، كأعداد المصابين والوفيات والأموال التي تنفق في مواجهة الأزمة، من دون الحديث عن الاستراتيجية المتكاملة التي يتبعونها، والمنطق الذي تقوم عليه. لم يتحدّث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن الأزمة إلا مرتين بشكل سريع. 
ويبدو من متابعة ما نُشر من تصريحات وبيانات عن الحكومة المصرية من ناحية، ومقالات تحليلية بوسائل الإعلام العربية والدولية من ناحية أخرى، أن الحكومة تتبع استراتيجية يمكن تسميتها استراتيجية "القمع المركب" في مواجهة الفيروس. ويقصد هنا ليس فقط قمع الفيروس، بتطبيق إجراءات العزل الصحي لضمان عدم انتشاره، أسوة بدول كثيرة، ولكن أيضا قمع أي نقاش جاد لاستراتيجية الحكومة المصرية نفسها، وما قد يترتب عليها من تبعات صحية واقتصادية سلبية، سوف تظهر بمرور الوقت. تتبنّى الحكومة، منذ بداية الأزمة، استراتيجية صحية محدودة الطموحات والأفق، في ما يتعلق بالحد من انتشار الفيروس، والتعامل من تبعاته الصحية. ويعود ذلك لسببين أساسيين، صحي وسياسي.
على الجانب الصحي، تفتقر مصر البنية الصحية المؤهلة للتعامل مع أزمةٍ كأزمة كورونا، أنهكت النظم الصحية في أكبر الدول وأكثرها ثراء وتقدّما وإنفاقا على الرعاية الصحية، كالولايات
 المتحدة والدول الأوروبية. تتحدث وسائل الإعلام الحكومية المصرية عن امتلاك مصر 131 ألف سرير في المستشفيات الحكومية والخاصة، منها حوالي 4400 سرير في العناية المركزة و2754 جهاز تنفس صناعي. كما تحدث السيسي، في أوائل شهر إبريل/ نيسان الحالي، عن قرب دخول ستة مستشفيات جديدة للخدمة، تمتلك كل منها مائتي سرير مجهز بالإمكانات الصحية المناسبة. وحقيقةً، كل هذه الأرقام قليلة للغاية للتعامل مع جائحة كورونا في بلد تعداد سكانه مائة مليون، خصوصا في غياب المعلومات الدقيقة عن عدد الأسرّة وأجهزة التنفس الصناعي الشاغرة.
ويدفعنا التدقيق في استراتيجية الحكومة المصرية الصحية، ومقارنتها بالاستراتيجيات المتبعة في العالم في مواجهة الفيروس، إلى عدم التدقيق في الأرقام السابقة فقط، فأحد أهم الأرقام في استراتيجية مواجهة الفيروس في مختلف الدول هو عدد الاختبارات التي تنوي الحكومات إجراءها للكشف عن وجوده، فمواجهة الفيروس تتطلب أولا الكشف عنه، وعن مدى انتشاره. وهنا تتحدّث وزارة الصحة المصرية عن افتتاح معامل تحليل في مختلف المحافظات، ولا تتحدث بوضوح عن عدد الاختبارات التي تنوي إجراءها، ووفقا لأي جدول زمني. في حين تنقل وسائل إعلام حكومية مصرية تصريحاتٍ عن منظمة الصحة العالمية تفيد بأن مصر تمتلك القدرة على إجراء مائتي ألف اختبار للكشف عن الفيروس. ولا تتوفر أي معلومات عمّا إذا كانت مصر تنوي زيادة هذه القدرة ومتى؟ وبحسب المعلومات المتوفرة، أجرت مصر، حتى موعد كتابة هذا المقال، 25 ألف اختبار فقط، كشفت عن 2190 حالة إصابة، توفي منها 164 شخصا. وتفيد وسائل إعلام مختلفة بأن الاختبارات لا تجرى إلا للحالات الأكثر تأثرا بالفيروس، وأن بعض المصابين يفضلون العلاج بعيدا عن المؤسسات الطبية الرسمية، خوفا من تردّي الخدمات وسوء المعاملة. ولعل هذا ما يفسر جزئيا قلة عدد الإصابات والوفيات التي تعلن الحكومة المصرية عنها يوميا، فبدون التوسع في الاختبارات لن يتم الكشف عن المدى الحقيقي لانتشار الفيروس. وتجب هنا الإشارة إلى أن الحكومة المصرية تأخرت كثيرا في إجراءات الكشف عن الفيروس حتى أول مارس/ آذار، وبعد أن أعلنت عدة دول أجنبية إصابة مواطنين منها بالفيروس خلال زيارتهم مصر، والحديث هنا عن حوالي مائة زائر.
ويعني هذا أن الحكومة المصرية تتبنّى، منذ البداية، استراتيجية محدودة الطموحات والأفق في مواجهة الفيروس كقرار سياسي، وهو السبب الثاني لتفسير تلك الاستراتيجية التي تحاول، منذ البداية، التقليل من حجم الأزمة خوفا من التكاليف الصحية والاقتصادية الباهظة لمواجهته. ولا تختلف استراتيجية الحكومة المصرية هذه عن استراتيجيات تبنتها حكومات يمينية في العالم، كالحكومتين الأميركية والبريطانية، ثم تراجعوا عنها بسبب شعورهم بخطورة الفيروس الصحية، وخوفهم من التبعات السياسية لارتفاع عدد المصابين والموتى. طبعا لا وجه للمقارنة بين الإمكانات الصحية في بريطانيا والولايات المتحدة من ناحية ومصر من ناحية أخرى، ولا بين النظامين السياسيين في البلدين والنظام السياسي المصري. حيث تفتقر مصر إلى البنية الصحية اللازمة لتحفيز استجابتها لمواجهة الفيروس، من حيث الإمكانات الصحية، كأسرّة الطوارئ 
وأجهزة التنفس الصناعي والملابس الواقية والأطقم المدرّبة والموارد المادية. كما تفتقر أيضا لآليات المحاسبة السياسية الموجودة في البلدان الديمقراطية، كالإعلام المستقل والانتخابات الحرّة والضغوط الجماهيرية القادرة على محاسبة الحكومة في حالة التقصير في مواجهة الأزمة.
قرّرت مصر، منذ البداية، أن تتبع استراتيجية صحية محدودة، تركز على بعض إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي، كغلق المدارس ودور العبادة وبعض المؤسسات الاقتصادية، وفرض حظر تجول جزئي، وهي إجراءاتٌ بدأت الحكومة المصرية في التخفيف منها سريعا، كما ظهر في تخفيف قيود الحظر في الأسبوع الثاني من شهر إبريل/ نيسان الحالي، خوفا من تبعاته الاقتصادية.
ولعل الذراع الثانية لهذه الاستراتيجية، قمع معارضيها، فهي تقوم على إجراءات صحية محدودة قد تعرّض البلاد لخسائر كبيرة نسبيا في الأرواح مع انتشار الفيروس. ولهذا تقترن، منذ البداية، بحالةٍ من القمع الواضح للأصوات المعارضة لها، فالاستراتيجية لا تناقش بشكل جاد، والإعلام المدعوم حكوميا يلوم الجماهير وثقافتها الصحية، ويردّد ما تقوله الحكومة، والرئيس المصري يتحدث بشكل عام مطالبا المصريين بأن يطمئنوا، من دون أن يقدّم تفاصيل كثيرة، ويحرص على الظهور مع القوات المسلحة في أزمةٍ صحية بالأساس، ولا ينسى الهجوم على معارضيه وقوى الشر التي لا تريد الخير للبلاد، وتقلل من إمكاناتها وإنجازاتها وتؤلب الجماهير.
سوف تمثل الأسابيع والشهور المقبلة اختبارا جادّا لاستراتيجية القمع المصرية على أكثر من مستوى. على المستوى الصحي، بلغ عدد المصابين المصريين أكثر من ألفي مصاب، وهذا يعني أن الفيروس بدأ في الانتشار بمعدّلات سريعة نسبيا، ما ينذر بزيادة أعداد المصابين والضحايا، خصوصا مع تخفيف إجراءات الحظر الصحي لأسباب اقتصادية. أما التحدّي الثاني فهو تبعات الأزمة الاقتصادية، فالأرقام التي أعلنتها الحكومة المصرية (100 مليار جنيه مصري أو 6.3 مليارات دولار) ضئيلة للغاية للتخفيف من تبعات أزمة عالمية قد تطول في بلد تعداده مائة 
مليون، خصوصا أن الأزمة تنذر بتراجع عوائد السياحة المصرية وتحويلات العاملين في الخارج والاستثمارات الخليجية وبتفاقم الديون الحكومية وزيادة معدلات البطالة والفقر. وهذا يعني أن استمرار الأزمة سيمثل اختبارا حقيقيا لاستراتيجية القمع المركبة التي تتبعها الحكومة المصرية (قمع المعلومات عن انتشار الفيروس وتبعاته الصحية وقمع أصوات المعارضين لتلك الاستراتيجية وتبعات الأزمة الصحية والاقتصادية)، وهو ما سيتطلب مزيدا من القمع من ناحية، وسيرفع من تكاليفه من ناحية أخرى.
لجأت الحكومة المصرية إلى استراتيجيتها السياسية المفضلة في التعامل مع أزمة فيروس كورونا، وهي قمع المعلومات والمعارضين وردود الفعل الجماهيرية، ما يعني تعميق سلطوية النظام القائم وزيادة الاحتقان السياسي ورفع تكاليف قمع الجماهير في انتظار تحسن الأوضاع الاقتصادية سريعا أو مواجهة عوامل مجهولة.