عندما تقود "إسلامية" بلدية تونس

عندما تقود "إسلامية" بلدية تونس

09 يوليو 2018
+ الخط -
يتعلق الأمر بسعاد عبد الرحيم، المرأة التي فازت برئاسة بلدية مدينة تونس، أو مشيخة الحاضرة، كما كانت تسمّى في المراسلات والنصوص القانونية لدولة البايات الحسينيين، الذين شهد زمن ولايتهم الاستعمار الفرنسي، وأفل نجمهم بإعلان الجمهورية في تونس في 25 يوليو/ تموز 1957. لم يكن مؤسسو بلدية الحاضرة وشيوخها، منذ سنة 1789 تاريخ إعلان مشيخة تونس، وإلى 3 يوليو/ تموز 2018، اليوم الذي انتخبت فيه عبد الرحيم، بمن في ذلك الجنرال حسين، أول رئيس بلدية تونسية بداية من سنة 1858 وأحد رفاق الوزير المصلح خير الدين المقرّبين، والعربي زروق، شيخ المدينة الذي رفض الاستمرار في موقعه على رأس هذه البلدية، احتجاجا على الاحتلال الفرنسي البلاد التونسية سنة 1881، وتوقيع محمد الصادق باي على معاهدة 12 مايو/ أيار 1881 التي حولت تونس مستعمرةً فرنسيةً، وأحمد الزاوش أول رئيس بلدية بعد الاستقلال، وأسماء كثيرة، أمثال علي البلهوان الملقب بزعيم الشباب في الحركة الوطنية التونسية، وحسيب بن عمّار مؤسس صحيفة الرأي ملاذ النخب المعارضة زمن حكم الحبيب بورقيبة، وفؤاد المبزع، الدستوري التجمعي المخضرم، رئيس الدولة بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وغيرهم ممن تولوا الشأن البلدي، لم يكن هؤلاء يعلمون، أو يخطر ببال أحدهم، أن هذه البلدية التي توازي في الأهمية بالنسبة لبلدانها بلديات باريس أو لندن أو نيويورك أو إسطنبول، التي لم يترأسها سوى الرجال أكثر من قرن ونصف القرن، ستتولى أمرها امرأة.

ولم يكن أحد ممن وردت أسماؤهم ليتوقع أن البلدية الكبرى التي تداول على تسييرها ورئاستها الأعيان وأصحاب النفوذ والوزراء وكبار التجار وملاك الأراضي والعلماء، الذين ينتمون أبا عن جد إلى الحاضرة، ممن انصهروا تحت مسمى البِلدية، على الرغم من أصولهم المتنوعة من شركس وأتراك وعرب وأندلسيين وأوروبيين، الذين كانوا يستوطنون مدينة تونس العتيقة، قبل الانتقال إلى ضواحيها الشمالية والجنوبية في المرسى وقرطاج وسيدي بوسعيد وحمام الأنف، أن امرأة ممن كانوا يصنفون أفاقين غير مرغوب فيهم، ووصفهم الأمر العلي لأحمد باي الثاني سنة 1931 بالهمج، وأغلق أمامهم أبواب المدينة العتيقة، تنحدر من المطوية في ريف مدينة قابس في الجنوب التونسي الواقعة في تخوم الإيالة التونسية، المعروفة بالأعراض زمن انبعاث مشيخة أو بلدية الحاضرة منذ 160 سنة انقضت، التي تبعد عن السلطة المركزية في تونس الحاضرة بأربعمائة كلم، وترتبط معها بعلاقة صراع وتمرّد ومجبى، أن امرأة من هؤلاء ستكون على رأس أول وأقدم وأعرق بلدية في تونس.
لم يكن صعود سعاد عبد الرحيم إلى هرم بلدية تونس مجرد مدخل لكسر تابوهات الهيمنة الذكورية باعتبارها عرفا ضاربا في القدم، وكسرا لتحريم المنصب على غير البلدية أصيلي الحاضرة وأرسطقراطياتها القديمة وعائلاتها المتنفذة، وإنما قطعٌ مع إرث تولي الدستوريين  والتجمعيين (حزب التجمع الدستوري المنحل) دون غيرهم هذا المنصب المهم في الدولة، واحتكارهم له على مدى حكمي بورقيبة وبن علي. ويعد مجيء الإسلاميين إلى رأس هذه البلدية، بعد عشر سنوات من تدشين مبناها الضخم بالقرب من مركز السلطة التقليدي والتاريخي في القصبة، من الرئيس الأسبق المخلوع زين العابدين بن علي يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، وهو الذي كان يمكّن رئيس البلدية، الحامل لقب شيخ مدينة تونس، من امتيازات عضو حكومة، ومن حضور مجالس الوزراء، يعد انقلابا عميقا في المعاني والرمزيات، وشاهدا على تبدّل أحوال الناس، فقد كان بن علي ونظامه الذي دخل في معركة دموية مع الإسلاميين، وجعل منهم خصمه وعدوه الرئيسي، عشريتين كاملتين، من أجل السلطة والحكم، يمهّد لهم الطريق بوعي منه، وباستشراف لمسارات التاريخ ومآلاته، أو بدون وعي للصعود إلى القمة، وتولي مؤسسات الدولة وأجهزتها التي كان يفتخر ويتباهى ببعثها أو تجديدها وإعادة تنظيمها وهيكلتها وإخراجها في أبهى صورها، كما الحال بالنسبة لبلدية تونس التي شيد لها مقرّا تشهد هندسته ومعماره ومنمنماته وجماليته وسعة فضائه وضخامة مبناه، على أهميته ومكانته في الدولة، ووعي القائمين عليها بأن الحكم لن يغادر سلالتهم العائلية والسياسية.
تختلف بلدية الحاضرة التي آلت رئاستها إلى الإسلامية سعاد عبد الرحيم، وجعل منها حزب حركة النهضة الإسلامي رهانا وتحديا لا بد له أن يفوز به مهما كان الثمن، وبالاستنجاد بكل الأدوات والوسائل المساعدة على الفوز، بمدنّسها ومقدّسها، عن غيرها من البلديات، فهي تمهد الطريق للذهاب إلى مواقع أكبر أهمية في الدولة، كما حدث في بلدان كبرى، ناهيك عن أنها تتمتع بأكبر ميزانية، مقارنة بغيرها من البلديات والمؤسسات القيادية، تصل إلى حوالي 170 مليون دينار (6,8 ملايين دولار)، ما يجعلها تفوق موازنة رئاسة الجمهورية المقدرة ب 108 ملايين دينار، وموازنة رئاسة الحكومة ب 157 مليون دينار، الأمر الذي جعل منها محل تجاذب كبير وصراع بين مختلف القوى السياسية والحزبية والأيديولوجية ولوبيات النفوذ المالي وأصحاب المصالح والأعمال.

استطاع الإسلاميون، بترشيحهم امرأة وتوليتهم لها على رأس بلدية الحاضرة، أن يقتحموا بيوت قوى الحداثة التقليدية المشتغلة بقضايا النسوية والمرأة والجندر عشرات السنين، (والمكتسبة منها شرعية ومكانة) ونواديهم ومنتجعاتهم، وأن ينافسوهم في الاستعمال والتوظيف والتسويق والدعاية والإشهار، فقد عجّت الشاشات العالمية، ومواقع الشبكة الافتراضية، والصحف الإلكترونية، بصور رئيسة بلدية تونس الجديدة التي اخترقت المنظومة التقليدية، من دون أن تكون خريجة جمعية النساء الديمقراطيات، أو اتحاد المرأة التونسية، أو غيرهما من الجمعيات النسائية التونسية التي تحظى بالقبول الدولي، والتمثيلية في المنظمات الدولية وغير الحكومية، ما يمكّن حركة النهضة، عن طريق النصر الذي تحقق لها على حساب حلفائها اللدودين الذين تشترك معهم في الحكم منذ أربع سنوات، من أن تقدّم نفسَها إلى صناع القرار الدولي، حاميا الحقوق النسوية والجندرية ومدافعا عنها. لكن اللافت في تجربة سعاد عبد الرحيم أنها لا تشبه الإسلاميات والنهضويات شكلا على الأقل، فهي المرأة غير المحجبة التي لا يوحي مظهرها ولباسها بانتمائها لحزب محافظ، له مرجعية إسلامية، على خلاف النسبة الغالبة من النهضويات والإسلاميات المتحجبات، اللواتي خاضت لأجلهن الحركة الإسلامية معارك ضارية من أجل حقهن في الحجاب، أو اللباس الإسلامي بحسب التسمية التي روجها الإسلاميون فترات طويلة، واستعملوها في المعارك السياسية والانتخابية، فإذا بالحركة الإسلامية تختار امرأة سافرة، حداثية اللباس والسلوك والمظهر، حتى تستطيع تسويقها، والتعريف بها، والتمكين لها في فضاء تعتمل فيه نزعات عدم القبول بالإسلاميين قادة للدولة، على الرغم من الشرعية الانتخابية التي أمنوها لأنفسهم، ويتنامى فيه الخوف على ما باتت تعرف بمكتسبات المرأة التونسية، الأمر الذي تم توظيفه في انتخابات 2014 الرئاسية، لصالح الباجي قائد السبسي الذي صوتت له مليون امرأة أو يزيد.