امرأة في تماثيل أفلاطون

امرأة في تماثيل أفلاطون

27 ديسمبر 2015
زينة عاصي/ لبنان
+ الخط -

ما زلت أذكر تلك اللحظة كأنّها حدثت قبل ثوانٍ
حينما بلغ الاستكبار حدّ البلاهة..

في إحدى باحات "الهدار" المرصوفة، ذات الأرضيّة الملساء
قبالة مقهى "نيتسا" القديم
مررت في يوم مشمسٍ بارد، بعد أن صحوت باكرًا.
لم أرتدِ يومها ملابسَ دافئةً، وكان النعاس يتملّكني والخبَل والبرد 
فكنت أتقافز كالقرد في سيري لأهرب من الظلال الباردة، وأكشف جسدي لأشعّة الشمس لأتدفّأ.

أعرف الجميع هنا، الحركة ذاتها والناس ذاتهم.
من المتسوّل المتلفّح بنفسه من البرد في ركن ما
والمجنونة السمينة التي تنام وتقوم على المقاعد العموميّة
ومدمنة الكافيين التي لا تنفكّ تزعج الناس طلبًا للمال لشراء القهوة من "نيتسا"
وحمراء الشعر تلك وابنتها، اللتان لا تتوقّفان عن القتال يومًا
وبائع الشاورما صاحب الرداء الأبيض ذٰلك الذي يستجدي العابرين يوميًا بأن يدخلوا حانته بتحيّته لهم بالعربيّة المشوبة ببعض اللكنة العبريّة قائلًا: "ألاان"، التي يراد القول بها: "أهلًا"
حتّى الموظّفين وأرباب الأعمال الذين يعبرون ذهابًا إلى أعمالهم
أعرف الجميع
الوجوه ذاتها والأشخاص ذاتهم
لا جديد يذكر، ولا قديم يعاد
روتين سقيم كئيب في هذه الباحة
وأقصدها طلبًا للسقامة والكآبة
ولعدم رغبتي في رؤية أي جديد
فلم يعد رأسي يتّسع لأيّما شيء جديد أشغله به

كان هذٰا اليوم سيمرّ كباقي الأيام لولا...
لولا تلك الفتاة التي كسرت قوالب الروتين في هٰذه الباحة
ربما تكون هي من حيث لا تدري، أعظم الأحداث التي مرّت على صورة هذه الباحة في عقلي خلال العقد الأخير، وربما يزيد...
أكاد أجزم أنّها الوحيدة التي انفردت بهذا الأمر
أكره المفاجآت
وأسلك هٰذه الطريق عبورًا من هٰذه الباحة بغية تجنّب المفاجآت، وكي أتجنّب رؤية ما يثير استغرابي، أو التعثر بجديد يشغلني
ظننتني حفظت الناس والمكان والعابرين عن ظهر قلب، وليس ثمّة ما يشغل بالي وتفكيري ويسرق حصّة مما تبقّى من الانشغال والهمّ في رأسي
حسبت نفسي ملكًا متسلّطًا على هذه الباحة، إلّا أن تلك الدخيلة قد كسرت سيادتي وهيمنتي، فقد دخلت منطقة نفوذي دون إذن منّي وموافقتي، وحطّمت مملكة الأوهام في رأسي، ولم أتمكّن حتّى من الاحتفاظ بحقّ الردّ
فأنا لا أعرف كيف؟ وأين؟ ومن هي؟
لا أعرف شيئًا

وأنا أبحث عن بقعة أخرى من الشمس..
لمحتها بعد أن لمحتني
وأمعنت النظر بها بعد أن أمعنت النظر بي
كنت أسير باتجاهها وتسير باتجاهي...
تلاقت الأعين
لقد تفحّصتها بكل التفاصيل في ثانية
كانت حلمًا
سمراء نضجة صفيّة تتلامع
لا يشوب صفاءها شيء
رائعة بشعرها المجعّد البنّي المائل إلى الاحمرار قليلًا
بأنفها الصغير
وفمها الدقيق، وعيونها العسليّة ببؤبئها الصغير
وجسدها الأنيق... المتين
انحناء غريب في ساقيها الممتلئتين

احتجت إلى بضع ثوانٍ لأخرج من سحر خالقها وأنتبه إلى نفسي بأنّي قد أطلت النظر إليها.
أصابني الحرج!
أكره بأن تراني إحداهنّ محدّقًا فيها للحظة، فكيف يكون الحال عندما ضبطتني هذه المخلوقة محدّقًا في عينيها طويلًا؟
لكنّي قلت لحظتها: لحظة، إذا كانت قد ضبطتني محدّقًا في عينيها طويلًا، هٰذا يعني أنّها هي أيضًا حدّقت في عينيّ طوال هذه المدّة.
كنت على صواب!
كانت لا تزال تحدّق فيّ.

تكرر ذات المشهد بضع مرّات. فكنت كلّما هممت باستيقافها مخافة أن تنتهي المسافة وأضيع الفرصة، وربما المستقبل، كانت تهم باستوقافي فأتراجع، فتتراجع.

ويزيدني ذلك غضبًا.. بدت لي انعكاسًا لذاتي على صورة امرأة، وذلك ما أدخلني شرك التحدّي والاستكبار، بدا لي الأمر برمّته نزالاً في حلبة ما وسط الهدار في حيفا، ولم أشأ أبدًا أن أرمي منشفتي في الهواء معلنًا استسلامي، فقد كنت على قناعة تامّة بأن الإرهاق سيتمكّن منها، والخوف على مستقبلنا سينال منها وسيتفوّق على استكبارها...

وحين دنوت منها على بعد خطوة، كنا لا نزال نحدّق بأعين بعضنا، فأحسست بأن الفقدان قريب، وتذكّرت مقولة ما تقول: في بعض الأحيان عليك أن تقوم بخطوة واحدة إلى الوراء من أجل عشر للأمام
إذن، لتكن خسارتي في هذا النزال خطوة إلى الوراء
من أجل كسب آلاف النزالات مستقبلًا إذا ما كتب لنا القدر مستقبلًا طيّبًا، من يدري؟
فحسمت أمري بأن أستوقفها مستسلمًا لها، راميًا منشفتي في الهواء معلنًا استسلامي
وجازمًا بأن استكبارها أعظم من استكباري
لكنّي جزمت أيضًا بأنّ مسؤوليّتي على علاقتنا أعظم من مسؤوليّتها
ورؤيتي للمستقبل أوضح منها
ووعيي لتبعات النزال أفضل من وعيها
فهممت باستوقافها غير مكترث برد فعلها ودوافعها واستكباري وتمنّعي عنها..
إلّا أنّها... اختفت
اختفت فجأة
واختفى تبادل النظرات حينما تعذّر
لم أكن يومًا دقيقًا في الحساب
أو لمّاعًا في الرياضيّات
وهنا كانت عثرتي
وكبوتي... التي استطعت فهمها في ما بعد
فهذٰا صحيح أن المسافة بيننا كانت خطوة
إلّا أنّ كِلَينا يتقدّم، وكلّ منا يقطع خطوة، أي أننا نقطع سويّة خطوتين
وحينما حسمت أمري باستوقافها، كنت على بعد خطوة منها؛ أي أنّ كان عليّ أن أحسم أمري حينما كنّا على بعد خطوتين
وهكذا... كنت قد أضعت فرصتي، وربما أضعت مستقبلًا رائعًا.
آه كم أردت أن ألتفت إليها وأناديها، إلّا أنّ الحيرة من اختفائها، والاستكبار، قد منعاني
ردّدت في نفسي طويلًا بأنّ عليها هي أن تلتفت وتناديني، فقد قمت بدوري وما يزيد... لقد رميت منشفتي، أهناك أكثر من هذا؟
لٰكن لا جدوى، لم تنادِني
وهكذا.. لم ألتفت، ولا أظنّها التفتت
تركتني مشدوهًا وسط "الهدار"
وشعرت البرد يتسرّب إلى عظامي كقوافل من النمل
لقد انتهى كل شيء بهذه السهولة
لقد كانت هذه الفتاة غريبة على المنطقة، وهي مجرّد عابرة، وقد لا ألتقيها مجددًا كل حياتي.
وبذلك، وفي لحظة استكبارٍ بلهاء
أضعت أجملَ ما وطأ أرض الهدار
أضعتها
تركتها تبحر بلا عودة.

بدت لي انعكاسًا متقنًا لي في امرأة، ربما أكون أنا في الأصل امرأة في تماثيل أفلاطون، بنظريّته، وأكون أنا نسخة غير متقنة... كما كانت هذه المخلوقة الدخيلة
من يدري، ربما لم تكن هي أيضًا لمّاعة بالرياضيّات يومًا، وقد أرادت استوقافي أيضًا، لكنّها أساءت الحساب
لقد تأخّرنا
يا أحباب تأخّرنا.


* كاتب فلسطيني/ حيفا

اقرأ أيضاً: القناع

دلالات

المساهمون