كانت النهاية المنطقية، تبعاً لحياتنا العربية الإسلامية، أن تظهر ملالا يوسف وجهاً شاحباً، يرسم ملامح العائدين من الموت، بعد التجربة الرهيبة التي قاستها مع "طالبان باكستان". لكن ملالا، المسلمة التي أسعدت في أكتوبر/ تشرين أول 2013 شهيد الله شهيد، الناطق باسم "طالبان باكستان"، بعدم حصولها على جائزة نوبل للسلام، مثل اليمنية توكل كرمان، أعطت للاسم النسائي الجريح، في عالم ما بعد الربيع العربي، قدراً عالمياً آخر، عنوانه الحياة وجائزة نوبل للسلام.وبعدها مباشرة، جزمنا، بغير قليل من اليقين العقائدي، أن المرأة هي عتبة الحداثة، وبوابتنا إلى عالم يسير في طريق بسرعةٍ ترعبنا. لكن، سرعان ما اكتشفنا شيئين: أن عصفورتين لا تصنعان وحدهما الربيع، في اليمن أو في آسيا البعيدة، ولو حلّقتا بجرأة كبيرة، تحت سماء من حديد. ثم اكتشفنا أن المرأة، أيضاً، في تاريخنا الحديث عتبتنا المدنسة إلى الجاهلية، وإلى ما قبلها، عندما رأيناها تسبى، وتعلن حريماً من أطراف الأرض إلى أطرافها.
وجاء تقرير مؤشر الفجوة العالمية بين الجنسين، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، ليؤكد غربتنا الراهنة في العالم، والغربة المزدوجة للمرأة المنتمية إلى دائرتنا العربية الإسلامية، فيه. إذ أظهر التقرير أن ترتيب الدول مخيف للغاية (الكويت 113- الإمارات 115 -مصر الرتبة 129 -سلطنة عمان 128 - إثيوبيا 127 -الجزائر 126 وتونس 123 وقطر 116 وزامبيا 119 .. وهلم جراً إلى الأسفل)!
ويمكن أن نضيف، مع صاحب "إسلام الأنوار"، مالك شبل، أن التطليق وتعدد الزوجات والزيجات بالإكراه، والزواج المبكر في 11 أو 13 سنة، وختان الفتيات، والتشهير بالنساء العازبات، والقتل باسم الشرف، من المظاهر الصارخة على الدونية القانونية للمرأة المسلمة بالمقارنة مع الرجل، وهي دونية مؤسسة، مثل الأطروحة الأصولية، على الطابع المحدود للطبيعة الأنثوية، وإن أكبر ظلم بشري هو الظلم الذي يقتضي الاستناد إلى البيولوجيا على حساب القدرات الأخرى للفرد.
وقد جاء تقرير هيومن رايتس ووتش، ليؤكد لنا أن ما عرفناه عن مكانة المرأة في الحروب (تقف خلف الرجل بالزغاريد والحناء لمن تخلف) انعكس، مثل كل الأشياء في حياتنا اليومية. وأصبحت السبايا المختطفات يُستخدمن على الخط الأول للجبهة في معارك بوكو حرام، كما قالت المنظمة المدافعة عن حقوق الإنسان، في تقريرها الذي تزامن مع اختطاف 60 فتاة في ولاية بورنو.
(ياللمفاجأة!) وواغا وغوارتا!
لم تعد منظمة نوبل، ولا منظمة هيومن رايتس ووتش، نافذتي العالم على كهوفنا التي تعيش فيها الأمة مرتاحة إلى سباياها، بل أصبحتا عنوان التقصير الذي لم نقم به بعد في قراءة أخرى لإيجاد سند آخر لنا، في هذا التراث النبوي والرسولي للدفاع عن حرية المرأة. إن العقلية التي تستند إلى فهم نشاز للدين والأنبياء والعلاقة مع المرأة، هي التي يجب أن تكون موضع نقد نفّاذ وجريء وغير مسبوق.
سؤالان يتبادران إلى الذهن في سياق مراكمة الحجج لذلك، ماذا لو طرحنا التساؤل الأول: بماذا يدين الأنبياء للمرأة؟ وبماذا ندين نحن، سنة وشيعة، للدم الأنثوي النبيل في سيرة العقيدة، وفي سيرة الحكم؟
في الجواب الأول، يلزمنا الأنبياء، ويلزمنا اعترافهم جميعاً بما قدمت المرأة لهم، لكي تكون لنا زاوية جديدة لمعالجة قضية المرأة.
إن جزءاً من سير العظماء الربانيين يجعلهم مدينين للنساء. نعم، الأنبياء مدينون للنساء، في سيرهم، كما روته صحاح الكتب، وكما جاء في كل سيرة على حدة. فبشأن موسى، عليه السلام، تتفق الكتابات على أن فرعون مصر قرر، في تجاوب مع فناجين الطالع وقتها، بأن يقتل كل الأطفال الذكور الذين يولدون، تحسباً لما يخفيه القدر من نهايته على يد طفل من بني إسرائيل. وهكذا قامت والدته، المرأة الأصيلة في حياة كل منا، باستلهام قصة نوح، وصنعت المهد الصغير، بما هو مقابل للسفينة الكبيرة، ووضعته في نهر النيل.الأم تفكر في استعارة النجاة، وامرأة أخرى، هي ابنة فرعون تنفذها. ولا شك أن المعاصرين لها اندهشوا كيف يمكن لابنة الملك أن تعارض أباها، وتنتهك قوانينه التي وضعها لحماية سلالة الفرعون، وهي منها.
وتروي سيرته أنه بدأ يبكي، وكانت أخته، المرأة الثالثة في الحكاية، تراقبه، بعد أن اتبعت مساره عبر النهر، ولمّا رأت أنه يرفض كل الأثداء الفرعونية المعروضة عليه، قفزت من مخبئها، لكي تدل الأميرة، ومن معها، على امرأة قادرة على أن ترضعه. فإذا بها تأتيه بأمه الحقيقية. كانت المرأة الفرعونية سبباً في دخوله الحرم الأسطوري، وتلقينه الأساليب الأميرية حتى بلوغه الأربعين من عمره. تبين، بالفعل، أن النبي موسى، عليه السلام، مدين كلياً للنساء. فقد كانت شقيقته، حسب السيرة التوراتية، هي التي أجبرت أباه على أن يعود إلى أمه، بعد أن كان قد قرر الاعتزال الجسدي وفرضه على بني إسرائيل، وأجبرته، بالعبارة القائلة: فرعون يريد أن يقضي على الذكور، وأنت تريد أن تجتث الذكور والإناث. وعاد عمران إلى زوجته، فأنجب موسى. وبعد أمه، ربته واعتنت به أميرة فرعونية. وبعد عقود ستنقذه زوجته سيفورا، كما في الميرداش. فقد كان موسى، عليه السلام، في طريقه إلى سيناء، ونسي أن يختن ابنه أليعازر، وهو نسيان كاد أن يكلفه حياته، لأن يد الله سبحانه كانت ستصل إليه، كما تقتضي تعاليم بني إسرائيل. لكن، أنقذته زوجته، في اللحظة الأخيرة، عندما أخذت حجراً، فختنت ابنها.
بعض أتباع السيد المسيح عابوا عليه، واستنكروا أن يتحدث إلى امرأة مدينية، ويمسها بيده. والحال أنها المرأة، ذات الرجال السبعة التي كشف لها بأنه المبعوث الإلهي. وهي أول من صدقه ودافع عنه. ومريم المجدلية التي كانت دليله إلى الحب الكبير، الذي ظل يطالب به البشرية إلى يوم الناس هذا، هي أول امرأة ستشهد بأنه عاد من قبره وبقي حيا، "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". وفي لحظات الصلب كن معه، ورافقنه عندما خانه بعض الرجال. وفارقوه، وصار مديناً لهن بما بقي من الإيمان بعده. آخر الأنبياء، الوحيد من أمة العرب الذي لم يتعامل مع النساء ... بالسيف، وجد إلى جانبه حليمة التي أرضعته، والتي ربته وسهرت عليه، بعد وفاة والدته. ووجد خديجة التي هدّأت روعه، ووقفت إلى جانبه وقفة امرأة واحدة. ولم تكن تحتاج إلى فتاوى الشيوخ، اليوم، لكي تقف في وجه القبيلة ووجه سادة قريش، وتحفظ السيرة النبوية، أيضاً، اسم خديجة، وحرصها على أن تهدئ من روعه بعد الوحي، وكيف دلته على ورقة بن نوفل، وكيف وثقت به، وضمنت له السريرة الهادئة لرسالته. لا يتعلق الأمر هنا بدين بين المرأة والأنبياء، بل هو إقرار، وبيان ضد مراسلي وكالة الرعب والكبت في الديانات التي تريد بأي شرط تحويل المرأة إلى عنوان "للّاتديّن"، وللخروج من ملة الرحمة والنبوة.
في السؤال التالي: بماذا ندين نحن، سنة وشيعة، للدم الأنثوي النبيل في سيرة العقيدة وفي سيرة الحكم؟
تكشف أنثروبولوجيا المقدس، (أو في أركيولوجيا النسب الشريف) أن السنة، ولا سيما الحاكمين، والشيعة، حاكمين ومحكومين، ملزمون بتفكير جديد يفهمهم أننا مدينون لفاطمة الزهراء، ابنة النبي، بقدر ما هم مدينون لعلي بالدم وبالتشيّع: فماذا تبقّى من نبي الإسلام، لولا دم فاطمة الذي نقل النبوة في الزمن؟ السنّة، أيضاً، ولاسيما الذين يحكمون باسم النسب الشريف، مدينون للسيدة فاطمة ذاتها، وليسألوا من أين مر النسب الشريف، معمدان السلطة والخلافة، من النبي إليهم، لولا دم فاطمة، فالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لم نرثه عن طريق الذكور، مطلقاً.
السؤالان، مثل الجوابين، يهدفان، على المدى البعيد للتحليل، تلغيم الفقه القديم "الدرع المسلح للأوليغارشية الدينية"، بمعادلات جديدة، وبجهاز تفكير وعمل جديد، يستطيع أن يصب في الحركية الجديدة في مجتمعاتنا أسباباً أخرى للحرية.
ليس الربيع الذي هزمناه، الآن، بعاداتنا السلطوية، فصلاً معزولاً في دورة واحدة للأرض، بل هو فرصة دائمة، في الواقع لكي يتجدد التفكير في التدين، من خلال المساواة والديمقراطية. إنه في الواقع مقترح "لإسلام الأنوار" ضروري لتعطيل كل النظريات المناهضة للمرأة، المرتبطة بالطبيعة الدنيا المفترضة لها، وهي نظرية "تشوه الإسلام وتعطي صورة سيئة عن الديانة التوحيدية الثالثة"، كما تلغي الدين الذي يدين به التوحيد للمرأة، في بقعة الشرق الأوسط التوحيدية برمتها، وامتداداتها طبعاً.
بعد عزل الرئيس المصري، محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز2013، قامت الأجهزة الأمنية بحملة كبيرة ضد قيادات جماعة الإخوان المسلمين وعناصرها وحلفائها، فضلاً عن إغلاق مؤسسات إعلامية واقتصادية وخيرية عديدة تابعة لهم، ولكن، الملفت هو الحملة ضد الشبكات الأيدولوجية (Ideological Networks) للجماعة، وما ينتج عنها من خطاب من خلال استراتيجيات متنوعة، كآلية لقطع سبل التواصل والإقناع بين الجماعة وحلفائها وبقية فئات المجتمع، ويرى مراقبون أن هذه الحملة تعتبر الأقوى منذ تأسيس الجماعة.
وتهدف هذه الخطوة إلى تعزيز سيطرة الدولة على المجال العام، والمجال الديني بصورة خاصة، وذلك ضمن مسارين رئيسيين، الأول ضرب منابر الخطاب ومنصاته، مثل منع الخطباء المعارضين الإسلاميين من اعتلاء منابر المساجد، وإغلاق فضائياتهم وصحفهم. والمسار الثاني، وهو التعاطي مع الخطاب نفسه، من خلال سياسات متنوعة. يرى بعضهم أنه لكي تكون الدولة ديمقراطية وحداثية، فإنها من الضروري أن تصبح علمانية، وهذا ما سُمي بأطروحة التحوّل نحو العلمانية. ويعتبر توماس لوكمان، وبيتر برجر، بين أبرز مَن سلّطوا الضوء على هذا المفهوم. فالتحوّل نحو العلمانية، حسب وجهة نظرهم، يحتاج إلى استئصال الدين من الحياة العامة، وجعله داخل المجال الخاص للفرد فقط. وقد كان هذا توجه دول، مثل فرنسا، وتركيا قبل أردوغان، وكان أيضاً من تنظيرات حركات وطنية تسلّمت الحكم، بعد جلاء الاستعمار عن بلادها، مثل تونس، إلا أن الحال في مصر حالياً مختلف تماماً.
انبرت مجموعة من "المشايخ" و"القسيسين" في مصر، المؤيدين للانقلاب، في تكفير "الإخوان" وتقديس نظام عبد الفتاح السيسي. ولكن، ما كان غير تقليدي، هو انبراء العلمانيين، أو الليبراليين، من كتّاب وإعلاميين مؤيدين للنظام، للخوض في الدين والتاريخ الإسلامي، وإعادة طرحه بطريقة جدلية. والسبب، طبعاً، ليس لأنه رسخ لديهم أن هذا من ضرورات الانتقال إلى الديمقراطية والتنمية، فالتحريض والتخوين وانتهاك حقوق الإنسان وصلت إلى مستويات مفجعة وخطيرة.
حاول إعلاميون وكتّاب وممثلون مصريون تقديم الدين الإسلامي بما يتناسب مع ولائهم للنظام، فتلك تتحدث عن رقص المرأة في الشارع بأنه من علامات وسطية الإسلام، وذاك يشكك في صحيح البخاري، وهذا يعتبر صلاح الدين الأيوبي "بهدل مصر"، وآخر يطالب بشطب آيات في القرآن الكريم في المدارس، كما سعى السيسي إلى تقديم نفسه بوصفه حامياً للقيم الأخلاقية والدينية في المجتمع. وهذه أمثلة بسيطة. لكن، النظام ليس متديناً، ولا صاحب مدرسة فلسفية وفقهية ينتمي إليها، حتى تكون له هذه الآراء، وليس حداثيا ديمقراطياً، يؤمن بأطروحة التحول نحو العلمانية طريقاً للديمقراطية.
يظل الدين، هنا، بالنسبة للنظام، يعمل كحزب سياسي، يدافع عن مصالح النظام، ويحل مشكلاته، وأداة من أدوات النظام في إخضاع الشعب، كما القضاء والإعلام والمؤسسات الأمنية. يدرك النظام العسكري في مصر قوة الدين في المجال العام. والدين بالنسبة له يمثل بنية تحتية خطابية لأداء وظيفة محددة. وفي ظل الحملة الضروس ضد خطاب "سلميتنا أقوى من رصاصهم"، وفي ظل محاولة النظام تأميم الدين، فذلك سيوفّر أرضاً خصبة لعمل الحركات المتطرفة، والتي ربما تتخذ شعار "رصاصنا أقوى من رصاصهم".