في الوقت الذي لم تكفّ فيه أهداف السياسة الفلسطينية عن الانكماش بين كل مرحلة ومرحلة، فمن برنامج تحرير كامل التراب الفلسطيني سنة 1965 (برنامج الانطلاقة)، إلى فكرة الدولة الفلسطينية سنة 1971، إلى البرنامج المرحلي أو برنامج النقاط العشر سنة 1974، إلى خطة فاس سنة 1983، ثم إلى برنامج الاستقلال سنة 1988.
وأخيراً برنامج السلام بحسب مؤتمر مدريد سنة 1991، والذي أفضى إلى اتفاق أوسلو سنة 1993 (راجعوا مقالة الزميل صقر أبو فخر، ملحق فلسطين/العربي الجديد، عدد 22 يونيو 2015)، نرى أن مطالب الفلسطينيين في الداخل (أي داخل أراضي 1948) تجاه دولة إسرائيل تأخذ منحى تصاعديَّاً، خاصة منذ توقيع اتفاقيّات أوسلو.
فمن مطلب المساواة التقليدي وإنهاء الاحتلال، إلى الاعتراف بالفلسطينيين كأقلية قومية أصلانية لها حقوق جماعية، إلى فتح ملفات الـ48، والمطالبة بتغيير النظام إلى نظام ديمقراطي بصيغة دولة المواطنة. ومؤخراً، عودة الحديث عن حلّ الدولة الواحدة، بصيغ مختلفة، كحل واقعي للمأساة الفلسطينية.
والمثير أن التحولات في الفكر والمطالب السياسية لدى الفلسطينيين في الداخل، جاءت من منطلق رؤيتهم لذاتهم، لهويتهم وانتمائهم، وخصوصية وضعهم داخل دولة إسرائيل، ودون تنسيق جدي أو توافق مع أطراف فلسطينية أخرى، وتحديداً منظمة التحرير الفلسطينية، بل ربما كرد فعل على تراجع دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية، وتآكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وبشكل متواز للحقبات الزمنية التي يقترحها أبو فخر. ونجد أيضاً أن علاقات الداخل الفلسطيني مع منظمة التحرير تأثرت تباعا لتلك الحقبات.
لم ينضو ما تبقى من الشعب الفلسطيني في حدود الـ48 بعد النكبة، بشكل رسمي وعلني، في أي مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، داخل الأجسام التمثيلية الرسمية للشعب الفلسطيني، وخصوصا منظمة التحرير الفلسطينية بعد تأسيسها عام 1964.
ولم تنسّق الأحزاب الممثِلة للفلسطينيين في الداخل (يشمل الحزب الشيوعي الإسرائيلي) مع منظمة التحرير الفلسطينية في خطواتها، أو مواقفها، أو في طرحها السياسي، على الأقل لغاية ثمانينات القرن المنصرم. وقد تعاملت الأحزاب العربية في الداخل مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني -طبعا باستثناء الفلسطينيين في الداخل، وقبلت قيادتها لمشروع التحرر الوطني، دون أن تكون جزءاً منه.
بداية العلاقات العلنية والتواصل بين منظمة التحرير وأحزاب من الداخل، بدأت في ثمانينات القرن المنصرم، حين بادرت تلك الأحزاب لزيارة المنظمة في تونس متحدية القانون الإسرائيلي الذي يمنع هذا التواصل. استغلت الأحزاب العربية الممثلة في الكنيست، الحصانة البرلمانية لخرق القانون الإسرائيلي، ونجت بفتح ثغرة في جدار منع التواصل مع الحركة الوطنية الفلسطينية. إلا أن هذا لم يعن أنهم باتوا جزءاً من الحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة.
أهداف التواصل كانت بالأساس (كما قال عدد من أعضاء كنيست سابقين في مقابلات شخصية أجراها كاتب هذه المقالة، في إطار دراسة حول نجاعة العمل البرلماني للفلسطينيين في الداخل ما زالت قيد الإعداد) لكسر القيود الإسرائيلية، وتعزيز الانتماء الفلسطيني.
وقد سعت منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد، إلى تجنيد الأحزاب العربية لدعم اليسار الاسرائيلي للبدء في عملية مفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أي أن طبيعة التواصل تأثرت إلى حد بعيد بالأهداف وبالمشروع الوطني الفلسطيني، وبالتحولات التي طرأت عليه.
تميَّزت تلك الفترة بقلة عدد الأحزاب الفاعلة داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل، وقبولها لأهداف المشروع الوطني الفلسطيني دون أي نقد، وقبلت بأي حل للقضية الفلسطينية يطرحه اليسار الإسرائيلي، وتقبل به منظمة التحرير الفلسطينية.
تعززت العلاقات بين أحزاب الداخل ومنظمة التحرير الفلسطينية مع بدء مفاوضات السلام بين إسرائيل والمنظمة بداية التسعينات، في مؤتمر مدريد ومن ثم مفاوضات أوسلو، حيث قامت الأحزاب العربية بدور استشاري لمنظمة التحرير من جهة، وبدور لاعب التعزيز لليسار الإسرائيلي في الكنيست من جهة أخرى.
حينها بذلت المنظمة جهداً كبيراً في محاولة إقناع بعض الأحزاب العربية بخوض الانتخابات في قائمة واحدة، كالحزب العربي الديمقراطي والحركة التقدمية للسلام والمساواة، وذلك لتعزيز تمثيل الأحزاب العربية في الكنيست، ورفع حصة "اليسار" في الكنيست، وبالتالي تسهيل عملية التفاوض، ومن ثم دعم حكومة رابين.
بهذا المعنى كانت حدود وأهداف التواصل في تلك الحقبة محددة في العمل المشترك لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 1967، وبهذا اعتراف ضمني من منظمة التحرير بواقع تقسيم القضية الفلسطينية، وإخراج الفلسطينيين في الداخل من المشروع الوطني الفلسطيني، ودعم للحلول السلمية بسبب خصوصية وضعهم. أيضا في هذه المرحلة لم تتعامل الأحزاب العربية بشكل نقدي مع منظمة التحرير، ولا مع عملية التفاوض، ولا مع اتفاقات أوسلو التي وقّعَت عام 1993. الأحزاب العربية قلبت تقاسم الأدوار هذا.
التحول الثاني الأبرز في منظومة العلاقات بين الأحزاب العربية ومنظمة التحرير، حصل بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، وتغيير معالم المشهد الفلسطيني وطبيعة الصراع، ناهيك عن التحولات في الإقليم، وفي وعي ومطالب الفلسطينيين في الداخل.
لم تعد العلاقة بين أحزاب تمثل فئة صغيرة مهمشة من الشعب الفلسطيني مقابل الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني (أي منظمة التحرير)، بل بين أحزاب فاعلة على الساحة الإسرائيلية تسعى لترتيب مكانة الفلسطينيين في إسرائيل، وقد يكون لها دور هام في دعم استمرار العملية السلمية، وبين سلطة فلسطينية تتفاوض مع إسرائيل وتتصرّف بشكل براغماتي، تخطئ أحياناً وتصيب في أحيانٍ أخرى.
هذه المرحلة هي مرحلة تهميش منظمة التحرير الفلسطينية، وانتقال مركز الثقل إلى السلطة الفلسطينية، وإلى داخل أراضي الـ 67. بات المشروع الفلسطيني يقتصر على صيانة السلطة الفلسطينية والحكم الذاتي، والسعي لنيل الاستقلال في حدود السابع من حزيران 1967، وذلك من خلال عملية التفاوض المحكومة بموازين القوى المحلية والدولية.
هذا التحول غير من طبيعة العلاقات ووتيرتها. أصبحت العلاقات بوتيرة عالية بفضل القرب الجغرافي، وبات هامش نقد السلطة من قبل التيارات السياسية الفاعلة في الداخل أوسع، لأنها لم تعد تتعامل مع حركة تحرر وطني لها محدوديتاها، ولها تبرير لإخفاقاتها. كما ارتفع عدد الأحزاب العربية في الداخل، وانضم إليها تيار وطني قومي، وتيار إسلامي.
إلا أن هذه العلاقات، على الرغم من بعض النقد الذي وجه إلى السلطة بسبب طريقة إدارة المفاوضات، لم تشهد شرخاً أو توتراً جديَّاً لغاية استشهاد الرئيس السابق ياسر عرفات، وربما بفضل رمزية شخص عرفات في هذه المعادلة. صحيح أن طبيعة ونوع العلاقات بين الأحزاب العربية في الداخل والسلطة الفلسطينية، لم تشكل إجماعا لدى الأحزاب العربية والمجتمع العربي في الداخل، إلا أنها تشكل مصدر خلافات بين الأحزاب العربية، لغاية استشهاد الرئيس ياسر عرفات وانتقال الرئاسة إلى محمود عباس.
في مرحلة الرئيس محمود عباس استمر التواصل عبر السلطة الفلسطينية وتغييب منظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن هذه المرحلة بدأت تشهد خلافاً واختلافاً في وجهات النظر بين بعض الأحزاب في الداخل، وبين السلطة الفلسطينية. وظهرت دعوات من قبل بعض الأحزاب العربية في الداخل لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. كما ظهرت انتقادات لأسلوب إدارة المفاوضات، وعدم تمكن السلطة من التوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية.
هذه الخلافات بين بعض أحزاب الداخل والسلطة الفلسطينية، احتدت على أثر الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، والانقلاب على نتائج الانتخابات الفلسطينية عام 2006. لم تعد السلطة الفلسطينية أو المنظمة محل إجماع سياسي لدى أحزاب الداخل، وباتت عرضه للانتقاد الشديد أحيانا من قبل بعض أحزاب الداخل، خاصة التيار القومي والإسلامي في الداخل، وباتت سياسات السلطة الفلسطينية والمفاوضات موضع خلافات بين الأحزاب العربية في الداخل.
بعض الأحزاب العربية لم تعد ترضى بوظيفة لاعب الاحتياط لليسار الإسرائيلي ولم تعد تقبل بأي حل يطرحه اليسار الإسرائيلي، وتقبل به السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، والبعض الآخر ما زال يدعم مواقف السلطة الفلسطينية، كونه يتعامل مع نفسه كجزء من اليسار الإسرائيلي. لكن بالمجمل، هالة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية تآكلت إلى حد بعيد، منذ العام 2006.
تراجع مكانة السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، لا يعني أنها لم تعد لاعباً هاماً على الساحة الفلسطينية عامة، والساحة السياسية لدى الفلسطينيين في الداخل. الدور، ولو كان متواضعاً، التي قامت به السلطة الفلسطينية في إقامة القائمة المشتركة للأحزاب العربية في الداخل هو أحدث مثال على ذلك.
وعلى ما يبدو نحن بصدد مرحلة جديدة في العلاقة بين الأحزاب العربية والتيارات السياسية في الداخل، ومنظمة التحرير الفلسطينية. قسم من هذه الأحزاب والتيارات السياسية، خاصة التيار القومي الذي يرى نفسه جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وبسبب تعثر إقامة دولة فلسطينية مستقلة بحدود 1967، بدأت تنادي بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، والحلول المطروحة للقضية الفلسطينية، لتشمل الفلسطينيين في الداخل أيضا.
هذا التحول إذا ما نضج ولاقى دعماً من تيارات سياسية فلسطينية أخرى، باستطاعته أن يعيد منظمة التحرير للدور القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية من جديد.
(باحث فلسطيني/ مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، حيفا)