الغرب في ليبيا

الغرب في ليبيا

02 مارس 2015

من تظاهرات الثورة الليبية في مصراتة (19أبريل/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى قراءة تاريخنا، ومراجعة الحكمة الكامنة في تراثنا، ففي غفلة عن دروسه المستفادة، وربطها بالواقع، سيقع السياسيون فريسة سهلة لمتلازمة التضحية؛ للعجز عن التفكير الموضوعي والعقلاني بسبب تلك المتلازمة؛ فيفقدون القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، فيقعون مجندلين صرعى الخوف والعجز. وهذه المتلازمة هي أعراض تصيب القادة، بسبب التحديات والضغوط التي تواجههم، وتؤدي إلى تفعيل منظومة الودية المتعاطفة، ومن آثارها أنها تحفز القادة، وترهقهم ذهنياً وبدنياً، فلا يستطيعون التعامل مع الأحداث، بموضوعية وواقعية، بل بوقوعية.

لا يمكن قراءة موقف الولايات المتحدة في مجلس الأمن بشأن ليبيا، أخيراً، فالسياسة الأميركية لا ترى في التدخل العسكري الأجنبي مصلحة تستدعي ذلك، وفشل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والمجموعة العربية الداعمة له، جاء من هذا السبب الرئيس، وليس من دبلوماسية بعض الدول العربية، مثل تونس والجزائر اللتين حركهما الخوف من خلط الأوراق، وزيادة الفوضى، إلى معارضة تمرير القرار.

من الصعوبة بمكان تصديق أن القوى الدولية على قناعة بالسياق الذي يقوده مبعوث الأمم المتحدة الخاص، برناردينو ليون، بشأن الحكومة التوافقية، وقدرتها على إنجاح الحل السياسي، فهم يعرفون، تمام المعرفة، أن التوزيع والتقاسم مشهد أمامي يغطي على سياسات أخرى، تهدف إلى القضاء على ثوار بنغازي ودرنة، وتفكيك قوة مدينة مصراته. لكن الموقف الأميركي، ومن ورائه مواقف بعض الدول الأوروبية، ليس غريباً، إنما الغريب أن يفصح رئيس المؤتمر الوطني العام في ليبيا، في خطابه أخيراً، عن رفض مبدأ تقاسم السلطة، ثم تخالفه تصريحات من أعضاء في "المؤتمر" بعد سلسلة الأحداث الأخيرة، فترحب بحكومة التوزيع والمحاصصة التي لا يُعرَف، حتى هذه اللحظة، من سيصادق عليها وما القوة التي تحميها، وكيف يمكن تهيئة الأجواء للعمل والإنجاز.

يبدو أن المؤتمر الوطني العام، بوصفه المؤسسي، يتأرجح سياسياً، نظراً لعدم وجود منظور واقعي ابتكاري لمسألة التوافق الاجتماعي، ولعدم وجود ارتباط عضوي بالتيار المقاوم للانقلاب والتوجهات الغربية. وما زالت رئاسة المؤتمر تواجه صعوبات جمة على المستوى السياسي، وصعوبات أخرى في القدرة على التوزان بين قديم يرى الحل في تقاسم السلطة والتوافق السياسي المزعوم، وجديد يعارض التنازل عن مشروع المقاومة وخذلان تيار التغيير، وترك الثوار المجاهدين من غير ظهير سياسي، بعد أن تبرز إلى العلن حكومة ما يسمى التوافق.

من العجب العجاب توهّم وجود سلطة متنازع عليها في ليبيا، فالدولة المركزية السابقة شهدت عمليات هدم لا يمكن أن تقوم على أنقاضها أي سلطة، بل التحدي الأكبر هو استيعاب التغيير العميق الذي طرأ بعد الثورة، وابتكار حلول جديدة، تدفع صوب التفكير، أولاً، في التخلص من سيناريوهات الإنهاك التي تستهدف المدن المقاومة للانقلاب، مثلما حصل في بنغازي، وثانياً إعادة بناء الدولة، وفق منظور جديد.

ما يمكن استنتاجه منطقياً أن حكومة التوزيع ليست حلاً، إذ إنها تتناقض بين رؤيتين لا يمكن أن تجتمعا على سقف حكومة واحدة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الإصرار عليها من الدوائر الغربية؟ ولماذا تدعمها الولايات المتحدة وإيطاليا؟ ربما الإجابة في الكلمة المفتاحية، "الإنهاك"، تلك الكلمة استراتيجية، تهدف إلى إنهاك كل الأطراف الليبية، ثم يأتي التدخل، بعد ذلك، لإعادة هندسة ما تبقى وفق المصالح الغربية.

بلع كثيرون الطعم، حين طابق خطابهم خطاب الغرب بشأن "الاسترهاب"، فعلى الرغم من التجارب الفاشلة في العراق وغيره، لا يزال هناك من يقول بدعوى "الاسترهاب"، عن سوء نية أو حسنها، لجر البلاد إلى مثل تلك التجارب، والتي لم تجن منها تلك الشعوب إلا الويلات الجسام، وستحتاج تلك الشعوب زمناً طويلاً للنهوض وعلاج الآثار التي تسببت بها استراتيجية إنهاكها، وإنهاك القوى الداخلية للمجتمعات.

لقد تحالف تيار ما يُعرف بـ"القيادات القبلية"، الذي صنعه معمر القذافي لقيادة القبائل في الشرق الليبي، مع الجنرال المتقاعد حفتر، ودعمته دول عربية، وغضّت الطرف عنه الأمم المتحدة وأميركا، في ما يشبه الدعم السياسي من أجل مكافحة "الاسترهاب". لكن، كانت النتيجة ضرب الفقهاء، والمحفظين، والأئمة، والخطباء، وحرق المدينة، وتدميرها، والانتقام الواسع من كل من له علاقة بالثورة. وفي المقابل، عجزت تلك الآلة العسكرية الهمجية عن تحقيق أي شيء يذكر في مواجهة الاسترهاب، لكنها أوصلتنا إلى غاية أخرى، هي إنهاك المجتمع وتدميره.

إذا ما نجح الغرب، بقفازات الانقلابيين، في إنهاك المجتمع في الشرق الليبي، ووجد ضالته في قيادات خانعة في الغرب الليبي، فإنه سيسعى، بكل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية، لتوريط مدينة مصراته في مواجهة "الاسترهاب"، من غير أي رؤية، أو تعريف واضح له؛ لكي تقع، هي الأخرى، في مواجهة مع فئات واسعة من المجتمع، أو هلال القبائل الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، خدمة للأجندة الغربية، وإذ يراد لها أن تدخل في هذا النفق المظلم، ويسعى الغرب إلى الفصل بين المدينة وتيار التغيير، حتى تتورط المدينة في حرب، من غير أي سند من مرجعيات دينية أو أخلاقية.

وفي الوقت الذي يطغى فيه الخطاب الغربي الداعم بقوة لحكومة التوزيع والمحاصصة، تسعى منظمات ومؤسسات غربية إلى شق الصف الداخلي لتيار التغيير، واستقطاب شخصيات جديدة، لضمهم إلى قائمة المهرولين صوب العواصم العربية والغربية، من خلال مشاريع للحوار وورش العمل، برعاية تلك المنظمات.

أختم القول بحكمة ليبية، ولسان وطني يذكّر بالتريّث والفهم قبل الاستعجال في اتخاذ المواقف الاستراتيجية، لكي لا نقع في فخاخ المشروع الغربي أو تهديدات الانقلاب.

avata
أنس الفيتوري

كاتب صحفي ليبي، عمل مدير تنفيذياً لمؤسسة العين للصحافة والإعلام والدراسات، وعمل في قناة الجزيرة مسؤولاً عن الملف الليبي في أثناء الثورة.