الطائفية.. وعي قاصر ومنطق مجنون

الطائفية.. وعي قاصر ومنطق مجنون

30 يونيو 2014
+ الخط -


حدّثنا ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، عن مدينةٍ تدعى "الري"، في بلاد فارس، وكانت  أعظم المدن بعد بغداد، من حيث العمران والنهضة والرخاء والتنوع المذهبي، قال "مررت بها فوجدتها خراباً، فسألت رجلاً من عقلائها قال: دمرتها العصبية الطائفية، حيث كان فيها الشافعية، وهم الأقل، والحنفية، وهم الأكثر، وفيها الشيعة، وهم السواد الأعظم، فوقعت العصبية بين الشيعة والسنة، فهُزمت الشيعة على يد الحنفية والشافعية، ثم وقعت العصبية بين الشافعية والحنفية، وكان النصر للأقلية وهم الشافعية، وبقي في الري الشافعية، الذين هم الأقلية، فخربت المدينة التي لا يسكنها إلا قلة، وتحولت المدينة إلى خراب يسكنها قلة قليلة". هذا وإن دل على أمر، إنما يدل على ضرورة التنوع الطائفي والمذهبي والفكري في المكان الواحد.

يشتعل في منطقتنا هذه الفترة صراع مرير، تتمثل الغاية منه في التحرر والحصول على حقوق مشروعة، لكنه يحمل، أو حُمّل شكلاً طائفياً وبعداً مذهبياً، ضمن ثنائيات عديدة، من أساسياتها السنةً والشيعةً، أي بين أكبر الطوائف الإسلامية، يدّعي كل منهما، في خطابه، أنه الحق المطلق، ويحاول جاهداً القضاء على الآخر، بحجة أن هذه الطائفة هي التي بدأت بقتله، أو تلك الطائفة تعتدي على عقيدته، علماً أن كلاً من الطائفتين تشتركان بالدين والكتاب المقدس، ونبيّهما واحد.

عُرفت الحروب الدينية بأنها أقسى الحروب وأبشعها، وأكثرها دموية، ومنطقتنا الآن تلبس هذا الثوب المدّمى، ففي سورية هناك ثورة شعبية طاهرة، على حاكم مستبد حاقد، من أجل الحصول على الحرية والكرامة. لكن، بقدرة قادر، تم تحويل هذه الثورة إلى صراع يلبس رداءً مقيتاً، وهو رداء الطائفية، ففي صف من ركبوا على موجة المعارضة، نرى القتل يتم باسم الله، على من يعتبرهم التكفيريون أعداء الله، من "الشيعة الروافض والنصيرية"، بحسب التعبيرات الطائفية التي يستخدمونها.

أما النظام، فإنه يمارس القتل، ليس على أساس طائفي، إنما لمعارضيه أجمعين، مهما كانت طائفتهم أو دينهم، وقد يدّعي بعضهم أن من يموت في سورية هم من السنة. وهذا طبيعي، باعتبار أغلب من يعارض النظام هم الأغلبية السنية. لكن، في المقابل، قد يتم القتل على أساس طائفي من الميليشيات التي تساند النظام، وتدّعي حماية المراقد الشيعية من "النواصب" و"قتلة آل البيت"، وفقاً لمعجمهم الاصطلاحي.

كذلك العراق حالياً، حيث لم يستطع الجيش العراقي، صاحب التدريب والتجهيز والمعدات العسكرية، مقاومة داعش، والعشائر العراقية السنية، فتم إصدار فتاوى من مراجع شيعية، تهدف إلى حشد التجنيد لشباب الطائفة الشيعية في هذه الحرب، وهي ليست حربهم، بقدر ما هي حرب السلطة والنفوذ، والأغرب خروج رئيس الحكومة، نوري المالكي، قائلاً، ما يحصل هو إعادة للحرب بين الحسين ويزيد، وقتلة الحسين هم الذين يشعلون فتيل الحرب. فلا أحد يستطيع إنكار ما تمثله هذه الكلمات، وهذا النوع من الخطاب العنصري الرافض لأبسط القيم الإنسانية، من أدوات تحريضية، يركن إليها الطواغيت في محاولاتهم للاستمرار على كراسي الحكم. فمن الضروري التنبه إلى أن الطائفية في العراق لم تقتصر على مراجع دينية، وإنما تمتد إلى الساسة ورجال الدولة.

الحقيقة أن المشترَكات بين كل من الطائفتين، أكثر بكثير من الاختلافات والفروق. لكن، ما يحصل هو التمسك بفروق طفيفة، والتشبث بخلافات سياسيةٍ قديمةٍ تعود إلى آلاف السنين، وإلباسها ثوباً دينياً.

ما يحدث منطق طائفي مجنون، من جميع المنخرطين في ترويح هذا الخطاب، ولن يتوقف هذا المنطق حتى تتعمد المنطقة بالدماء، وتستفيق رافضة لما يُفعل بها. حتى أن التاريخ الأوروبي خير مثال يُتعلم منه، حيث ذكر فولتير، في كتابه "رسالة في التسامح"، أنه "كان يقام في مدينة تولوز الفرنسية احتفال بالغ القسوة والبشاعة، حيث كان يخرج سكان المدينة في موكب مهيب، يشكرون الرب، ويهنئون بعضهم بعضاً، لأنهم ذبحوا أربعة آلاف من أبناء بلدتهم البروتستانت قبل 200 عام".

هنالك نظرية في علم النفس الاجتماعي تسمى "النزوع إلى الأسهل"، أي بمعنى "أسهل علي أن أقتلك، من أن أناقشك وأحاورك للوصول للمشتركات". يستطيع الحقد الطائفي أن يمنح عقل الإنسان وضميره الإباحة والمشروعية على قتل الآخر وإيذائه، وهذا لمجرد أنه مختلف عنه في الطائفة.

إن الصراعات التي تأخذ مثل هذا البعد الطائفي المجنون، غالباً ليس فيها منتصر، وإنما الجميع مغلوب، ظاهراً أو ضمناً، وكثيرون يريدون لصراعات كهذه أن تنتشر. لكن، على الشعوب التساؤل: من المستفيد من تغييبها وزرع العصبية الطائفية في نفوسها؟

قال الكاتب الإغريقي، أبيخارموس، في القرن الخامس قبل الميلاد: "الإدراك وحده هو المبصر السميع، وبدونه كل شيء أعمى أصمّ وبلا روح". الانفتاح على الآخر وقبوله هو الحل، وبغير ذلك، تستمر النزاعات والصراعات، حتى يصل الجميع إلى نتيجة أن منطق التعصب الطائفي منطق مجنون.

D2E09192-410D-49DC-84E7-5663E07D486C
D2E09192-410D-49DC-84E7-5663E07D486C
محمد زيكار (سورية)
محمد زيكار (سورية)