الشجرة والعاصفة... حكاية روح هائمة في الضياع

الشجرة والعاصفة... حكاية روح هائمة في الضياع

16 فبراير 2020
+ الخط -

فازت رواية الشجرة والعاصفة بجائزة الشارقة للإبداع العربي، في الدورة 21، متفوقة على أعمال روائية من جل الأقطار العربية.. احتلت هذه الرواية، لصاحبها مراد المساري، الرتبة الأولى في صنف الرواية.

لا أخفيكم أنني قرأت لمراد المساري مجموعة قصصية، موسومة بعنوان "أنا لست لك" فاز بها بجائزة اتحاد كتاب المغرب سنة 2014، وكانت ذات طابع بسيط، وبلغة سلسلة، ووظف فيها تقنية الانتقال من حدث إلى حدث دون رتابة أو الخوض في الجزئيات المملة. حينما أنهيت قراءتها ظننت أن كاتبها أعطى كل ما تزخر به أنامله، بيد أن هذا العمل الروائي، الذي قل نظيره، دون مداهنة، قد بيّن انفتاحه الكبير على تجارب روائية عربية وغربية كبيرة.

الرواية جنس أدبي مخيف، لا يمكن أن يقتحمه أيا كان، باعتبار أن الرواية تحتاج لنفس طويل، ولسرد مسترسل ومتواصل دون أن يضيع الخيط الناظم لأحداثها، وتحتاج أيضا إلى أن يكون كاتبها قارئا يقرأ بشره، فلا يمكن لأي كاتب أن يكتب دون أن يقرأ، وأن ينهل من الأعمال الكبرى لأيقونات الرواية العالمية والعربية. الرواية لا تكتب فقط لتنشر، وليقدم لها أصدقاؤك المقربون مراجعات وقراءات خالية من الموضوعية، مستعملين في قراءاتهم لغة منمقة تحتوي على مصطلحات ومفاهيم فضفاضة ومترهلة، أو يلتقطوا لها صورا، في أماكن مختلفة، حتى تلقى صدى واسعا. الرواية هي قضية في حد ذاتها، أو بالأحرى يجب أن تعالج قضية تشغل بال محيطك. الأدب، بكل أجناسه، كان ولا يزال عبارة عن قضايا.


هذه الرواية تنم عن جهد جاد ومضنٍ بذله الكاتب في كتابتها ويستحق على ذلك وافر الإشادة والثناء. تبدأ أحداث الرواية في حي راق من أحياء الدار البيضاء، هو حي بوركون، وبالضبط في سنة 2014. في شقة كان يعيش فيها أستاذ في التعليم يدعى فيصل. فيصل بطل الرواية، يعاني من مرض نفسي ينخره، كما تنخر الدودة ورق العنب، تعايش معه لمدة طويلة، إلى أن تعرف إلى صديق له يدعى منصور، وبدأ هذا الأخير يرميه بكلمات وعبارات تنغرس بداخله كخنجر مسموم، أو بالأحرى "تقصم ظهره" كما جاء على لسانه في الرواية. لأنه فهم شخصية فيصل أو ربما استوعب مرضه، ورغم ذلك لم يكن رحيما به. كما أن منصور هو من سيشكل عائقا لفيصل للتقرب من سارة، التي أحبها بجنون. سارة كانت راقصة تمتهن الرقص بحرفية عالية، جميلة جدا؛ فقد قدم لها الكاتب وصفا بديعا. حبه لها دفعه للحضور إلى عروضها، وذات مرة حدج شخصا، على الركح، يقترب منها حتى كاد يقبلها، والتصق صدره بصدرها، وطوق بذراعيه خصرها؛ ذلك يندرج ضمن العرض، إلا أن فيصل أحس بغيرة جعلت عينيه تتقدان بنار محترقة، فأمسك الراقص من رأسه وانهال على كتفه بتمثال لأحد الموسيقيين العالميين (موزارت) فاستغرب الحاضرون من فعلته، علما أنه لم يكن يدري ماذا يفعل. هنا بدأت معالم المرض تتبدى في غياب وعيه.

عاش فيصل طفولة مأساوية، حيث ترعرع في دار الأيتام، ولم يكن يعرف والديه الحقيقيين، والتقى البعض منهم يفترشون الأرض، وسرد كيف ألقت سبل الحياة بكل واحد في متاهاتها. تلك الذكريات صارت تلازمه في كل حين، وقلما تبرح ذاكرته، فعذبته وجعلته أسيرا لهواجس لا تنتهي. ظل فيصل مرتبطا بالماضي، لم ينس طفولته الممزقة، وكلما تذكر تلك الأيام في دار الميتم انقبض قلبه ومضغ الحسرة على أحلام وردية تلاشت. ما يبين ذلك المرض، الذي جعله آخذا في الاضمحلال، هو غيابه عن حصصه الدراسية كأستاذ، متحججا بالنسيان؛ فعوقب من طرف الوزارة في مجلس تأديبي، فتوقف عن العمل لمدة قصيرة، وطلب منه أن يواظب على حضور جلسات مع طبيب نفسي بعدما اكتشفوا مرضه. وأصبحت تقع في ذهنه أحلام ثقيلة كالحجر تتنافى كليا مع الواقع، كحلمه عندما ظن أن تلك المرأة التي استضافها بشقته وكانت تعلم الأقدار التي تصيب الناس، واعتبرها صديقه منصور، مجرد دجالة، وعندما نام جاءه كابوس مرعب؛ السيدة الطاعنة في السن قتلت صديقه وهي الآن تتوجه إلى غرفته لتصفيته هو أيضا، فهرع مفزوعا تجاه الغرفة التي ينام فيها منصور فوجده غارقا في النوم، والسيدة أيضا تنام نوما هنيئا.

كان فيصل منطويا على ذاته يمقت العلاقات الاجتماعية ويزدريها، نظرا لذلك النفاق الذي يطبعها. بقي وحيدا تمزقه الكآبة، حتى صار على وشك الانهيار. وما زاد الطين بلة هو هروب سارة، وعودتها إلى زوجها السابق، بعدما تركت رسالة لفيصل تعتذر له فيها. حينها أحس بنفسه غارقا في دوامة الأحزان، وراودته أفكار انتحارية حتى يضع حدا لهذه المعاناة المرهقة. ظن في البداية أن سارة هي من ستخرجه من ذلك النفق المظلم الذي يقبع فيه، واستسلم لملكوتها الوردي، إلا أن النهايات غالبا ما تجافي البدايات.

الحب، الطفولة، الذاكرة، المرض، الوحدة، الموت؛ هذه كلها خيوط عريضة شكلت رواية الشجرة والعاصفة. فقز فيها الكاتب على أوتارها برشاقة، وصور جزئياتها بلغة جميلة، رصينة، استطاع بها أن يدخل القارئ في قوقعة أحداث متشابكة تجعله متلهفا لمعرفة نهايتها. وهنا بالضبط كانت المفاجأة، عندما بدأ فيصل يبوح للطبيب النفسي بما يشعر به، وصور له بعض الأحداث التي عاشها، فتبين للطبيب أن فيصل مريض بمرض الفصام، حيث بنى أحداثا وشخصيات لم تكن موجودة على أرض الحقيقة أصلا، بيد أنها رغم عدم وجودها، إلا أن الكاتب أبدع في تصويرها سردا ووصفا وجعلها تبدو حقيقية. هنا بعثرت أوراقي، وتركت الرواية جانبا مستعينا بمذكرتي حتى أستوعب دهاء وفطنة الكاتب، وهذه تحسب له.

فإذا وجدنا روايات ذاع صيتها، ولقيت إقبالا كبيرا من طرف القراء، وما فتئ كبار النقاد يشيدون بها، علما أن لغتها ركيكة، وموضوعها سبق أن تم تداوله، لكن ذلك يعود أساسا إلى العلاقات التي تجمع بين الكاتب والمراجعين لروايته، في غياب تام للموضوعية. أنا لا أؤاخذهم على هذه المراجعات التي يهيمن عليها طابع المواربة والمداهنة، لكن من النافل القول بأن ذلك نقد. النقد هو أن تدخل عملا ما، في أي مجال، إلى آلة تحليلية، وتفككه، وتغوص في تفاصيله، حتى تعرف ما له وما عليه، بكل حيادية.

رواية الشجرة والعاصفة توضح اشتغال كاتبها بجدية كبيرة، ولم يكن بإمكانه أن يكتب هذا العمل، ويحصد جائزة؛ تحتل مكانة فريدة في الأوساط الثقافية العربية، لو أنه لم يكن قارئا جيدا.

في هذه الرواية عالج مشكلة عويصة تجتاح المغرب في السنوات الأخيرة، وهم المرضى النفسيون والمختلون العقليون، لأن المغرب وشعوب الدول العربية برمتها لم تستطع التكيف والتعايش مع المرضى النفسيين الذين يعيشون، في مجتمعنا، مأساة تدمي القلب.

عرفت الرواية المغربية في السنوات الأخيرة قفزة نوعية ملحوظة، سواء من ناحية القضايا التي اشتغل عليها الروائيون الشباب، أو من ناحية التشبع بتقنيات السرد الحديثة، ورصانة اللغة، ورشاقة الأسلوب، ولذلك وجب الاعتناء بهذه الأعمال عناية فائقة وأن تصل إلى القارئ العربي، ولم لا تنال حظها من الجوائز، رغم الرواج الواسع لهذه الجوائز في الآونة الأخيرة.

D0771653-5987-472A-9832-BC01A63DAA54
سفيان البراق

مدون مغربي... طالب جامعي في السنة الثانية شعبة الفلسفة. السن 19 سنة وأنحدر من منطقة هوارة نواحي مدينة أكادير.