صناعة التطرف في العالم العربي

30 يونيو 2016
(في العراق، تصوير: أحمد الربيعي)
+ الخط -

شكل التطرف على مر العصور ظاهرة اجتماعية مؤثرة في المجتمع ولها جذور ثقافية وإيديولوجية مرتبطة بمجموعة من المتغيرات السياسية، التاريخية، الاقتصادية والدينية. إن الارتباط بهذه الظروف جعل من التطرف ونقيضه اللغوي؛ الاعتدال، مفاهيم نسبية في البيئة المجتمعية، والخلفية الدينية والحاضنة الحضارية.

ويعتبر التطرّف اتخاذ الفرد موقفاً متشدّداً يتسم بالقطيعة في استجاباته للمواقف الاجتماعية التي تهمه، والموجودة في بيئته الزمنية والمكانية، واستخدم مفهوم التطرف في الإشارة إلى الخروج عن القواعد الفكرية، القيم والسلوكيات المتعارف عليها والشائعة في المجتمع، معبراً عنه بالعزلة، أو بالسلبية والانسحاب، أو تبني قيم ومعايير مختلفة، قد يصل الدفاع عنها للجوء إلى العنف بشكل فردي أو جماعي منظم، بهدف إحداث التغيير في المجتمع وفرض الرأي بالقوة على الآخرين.

على هذا الأساس، يتحوّل التطرف في العديد من الأحيان من مجرد فكر إلى سلوك ظاهري، عمل سياسي أو ممارسة اجتماعية، يتم استعمال العنف فيها كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الفكر المتطرف، أو اللجوء إلى الإرهاب النفسي، المادي، أو الفكري ضد كل ما يقف عقبة في طريق تحقيق الأفكار المتطرفة.

وبذلك، يرتبط التطرّف بالجمود العقائدي والانغلاق الفكري، فالتطرف هو أسلوب مغلق للتفكير، أحادي الرؤية، غير قادر على تقبل المعتقدات الأخرى المختلفة عليه ولا يقبل فكرة التسامح والتعايش معها.

ويعتمد التطرّف على التعصب للجماعة التي ينتمي إليها، والتعصب هو اتجاه عقلي وحالة نفسية من الكراهية تستند إلى حكم عام جامد، فالتعصب بمثابة انحراف عن المعايير العقلانية مفرط في التعميم، رافض لأي تعديل ويسعى إلى تصنيف الغير في قوالب نمطية.

في السياق نفسه، تتجلّى مظاهر التطرف في التشدد والغلو في الرأي مع عدم القدرة على إجراء حوار ونقاش متبادل يعتمد على الحجج والبراهين العلمية والفكرية، والعمل على محاسبة الناس دون قبول العكس، سوء الظن في الأخرين ووضعهم في قفص الاتهام والإدانة، وكذلك العزلة عن المجتمع، ازدراء الآخر، إطلاق الأحكام عليه، تعنيفه وتجريده من حقوقه وخاصة حقه في الحياة. ويتخذ التطرف مظاهر عديدة؛ أهمها التطرف الفكري الذي يخص الخروج عن الأطر الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، وكذلك التطرف الديني الذي يعتبر أكثر أنواع التطرف انتشاراً من خلال التشدد في السلوك الديني فكراً وعملاً.

خلال العقود الأخيرة، أصبح العالم العربي منتِجاً للتطرف بكل أنواعه، خصوصاً الديني. وبعيداً عن مسألة تأويل الدين، أو هناك بالفعل في داخل الدين أشياء تدفع بعض معتنقيه إلى تبني اتجاهات متشددة يوفرها النص، الأمر الذي يستلزم إصلاح الشأن الديني وتجديد الخطاب، وضرورة فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة، والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع، وتطويره ليتلاءم مع مقتضيات العصر وإحياء جهود المجدّدين من أعلام مفكري الإسلام، والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان.

إلى جانب ذلك، لا بد من العمل على استكمال ثقافة علماء الدين بالمعارف المحدثة والفكر التنويري وإقامة تفسيرات حديثة تخص أوضاع الحريات، ومسألة الجهاد، والتكفير والردة وقضية المرأة في المجتمع.

هناك عوامل أخرى ذات روافد سياسية واقتصادية ساهمت في صناعة التطرف في الدول العربية، حتى أصبح هناك شباب يهاجرون تاريخياً فراراً من اليأس والبؤس، للخلاص في الآخرة، بعد أن أصبحت الدنيا جحيماً في أعينهم، فيتجهون نحو التطرف الديني والإرهاب، ويصير النقل بديلاً للعقل، والتكفير بديلاً للتفكير.

ومما يجب التوقف عنده، أن الدول العربية عرفت وضعية سياسية بعد الاستقلال اتسمت بغياب السياسة وغلب القمع والاستبداد متمثلاً في صورة القائد الواحد وحزب النظام، وسيطرة الهاجس الأمني على بناء السياسات العامة والمشروع التنموي، ما أدى إلى هدم ركيزة الحق والقانون مع غياب رؤية رصينة لنموذج اقتصادي طموح. كما سجلت الدول العربية أرقام قياسية في انتهاكات حقوق الإنسان بسبب الاعتقال السياسي والاختطاف القسري، ناهيك عن المحاكمات العسكرية.

وعرفت الدول العربية إقصاءً واسعاً للقوى السياسية وتهميشاً ممنهجاً للطبقات الفقيرة والمعوزة، نجم عنه فوارق اجتماعية مهولة بين الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والمدن والأرياف والمراكز والجهات، كما حول الريع الاقتصادي دور الدولة من دولة إنتاجية إلى دولة تحصيصية، اندثرت فيها قيم العمل، والاجتهاد، والابتكار والاستحقاقية، واتسمت بتضخم بيروقراطي مفرط واستفحال الفساد الإداري والمالي.

على هذا النحو، أصبحنا أمام دول الكمبرادورية التي تستند إلى شبكات اقتصادية ودوائر سياسية جمعت بين رجال الأعمال والمسؤولين في السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن عبر روابط وشائجية من قبيل الانتماء العائلي، القبلي، الإثني والطائفي، معلنة بذلك عن إفراغ المؤسسات الوطنية من كينونتها المبنية على الإسهام في الرقي بأداء الإنتاج العام ومعاني التماسك والسلم الاجتماعي داخل المجتمع.

هذا الأخير الذي تحول إلى مجتمع ذي احتياجات خاصة، بفعل الظلم، والإهمال وسوء توزيع الثروات، فحرم الإنسان العربي وخاصة الشباب من التمتع بإنسانيتهم ونصيبهم في تعليم جيد ورعاية صحية وسُلبوا حقهم في العمل والسكن والولوج للمرافق الخدمية.

وبذلك، تنغلق الآفاق أمام الشباب فلا يتم الاعتناء بهم ولا إدماجهم في السياسات العامة الأمر الذي يجعل من التطرف ملاذهم للخلاص من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي.

إن غياب العدالة الاجتماعية بالدول العربية له وقع كبير في تنامي الإرهاب والتطرف، فهي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كليهما، ويغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعيًا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، ويتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ويعم  فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، ويتاح فيها لأعضاء المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم وإطلاق طاقاتهم من مكامنها وحسن توظيفها لصالح الفرد.

إن التطرف هو نتاج لسياسات عامة فاشلة، جعلت من الدول العربية مؤسسات بدون عقل في ظل إدارة للحكم بالجريمة بغرض الترويع من أجل التركيع، والتدبير باللقطة حيث ينصب الاهتمام على المباني وتنسى المعاني ويبحث المسؤول عن التقاط الصور، لا عن تقديم الخدمات منتهجا منطق الإغاثة والطوارئ لا الإصلاح والبناء، فقد صارت الإنجازات خالية من مضمونها كمن يسجل نقاطا بأهداف فارغة، واختزل معنى الوطن في الانتماء العائلي، القبلي والطائفي، وغابت القدوة عن المجتمع، فمجتمع زينته ساسة جاهلون، رجال دين كاذبون ورجال أعمال استغلاليون يروون قصص نجاحاتهم الوهمية التي لا تقدم للشباب سوى قصة سباق وحشي دون غاية أو يهدف محدد، يلتقطون رزقهم ويقضون مصالحهم في طاولة طعام ثم يعتبرونها مزبلة، إنه الوطن الذي أصبح بعيداً ومهجوراً، و تذكره صار مدعاة لتوقع الكذب، الخداع والنفاق باسمه.


(المغرب)

المساهمون