الكرم في الكتابة

الكرم في الكتابة

11 اغسطس 2015
لوحة للفنان التونسي عادل مقديش
+ الخط -
"الأدب في أثناء الثورة حين تضطرب نفوس الناس بالأمل والطموح، ونفوس فريق منهم بالخوف والمحافظة، متواضعٌ مقتصد يمشي على استحياء، إن أمكن وصف الأدب بالمشي وبالحياء أيضًا، لأن الناس مشغولون عنه بأحداث الثورة ممّا يقع وما يُنتظر، وبما تدفع إليه هذه الأحداث، ولأن الأدب، لا سيما في هذا العصر الحديث، إنما يستمدّ حوله وطوله وقوّته وروعته من الحرية الكاملة التي لا معقّب عليها. وهذه الحرية موقوفة بطبيعة الأشياء أثناء الثورة، سواء أراد الناس ذلك أم لم يريدوه. والأدب يجاهد في سبيل الحرية ويحتمل في هذا الجهاد ألوان المكروه على اختلافها قبل أن تصبح الثورة السياسية أمرًا واقعًا".
تبدو كلمات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هذه، وكأنها لم تفقد شيئًا من بريقها وإشعاع معانيها، وقوّتها في بثّ النقاش حول استجابة الأدب للحدث السياسي. فالناقد الفريد ببصيرته، جنح كما دأبه إلى تبريد "الأحكام المسبّقة" و"الأقوال الجاهزة" حيال شؤون الثقافة المتشعّبة، منتصرًا بذلك وعلى الدوام إلى العقلانية في التفكير، ومستندًا إلى التحليل الكريم بالأمثلة والتمثيل. والكرم إحدى صفات الأديب الحقّ، فهي التي تمنع الزمن من نسيانه، وتحفظ له مكانته في التاريخ. إذ لا مناسبة خاصّة لاستعادة طه حسين، حتّى وإن كان المجتمع العربي يمرّ بظروفه التي نعرفها عن ظهر قلب، فالعميد حاضر لكل المبصرين، وغائب لدى المستسلمين للخرافات والمسلّمات، المتكئين على السخرية، سبيلًا وحيدًا لوصف حالتنا، فضلًا عن المتربصين بالمستقبل، الباثّين لتشاؤمهم في كلّ حين.
وإن جرت العادة على ربط صفة الكرم بمال أو بديل عيني منه، إلا أنها في حال الكتابة، ترتبط بشكل وثيق بقوّة الإنتاج الثقافي لكاتب ما على جرّ القارئ صوب مساحات أوسع وأبعد. ففي حال العميد، يكفل الإعجاب بنتاجه، الغرف من مناهل معرفية شتّى؛ من التراث العربي الشعري القديم، إلى اليونان إلى مصر إلى التعليم بمراتبه وصولًا إلى أكثرها رقيًا، أي البحث العلمي، فضلًا عن ذاك الزاد المكين في معرفة الإسلام ورجاله الطيبين. كتابًا فآخر، ويجد القارئ نفسه أمام بحر من كتب أخرى لكتّاب آخرين، دلّته إليها واهتدى إلى سبيلها عبر كلمات طه حسين وحدها. وبقدر ما تشفّ كتب أخرى من وراء كتب العميد، تشفّ روحه من خلال لغته الآسرة الناصعة، لا "الأنا" النرجسية التي يتقن "بخلاء" الروح في الكتابة، والتعبير جائزٌ ويجوز، في بثّها عند كلّ كلمة، محتفين بأنفسهم وبـ"تصنيعها" و"اصطناعها". ثمّة كتّاب يضيئون الثقافة، وآخرون يعتّمون عليها.
ومثلما اتّصف طه حسين بهذا الكرم، اتّصف به كذلك الشاعر محمود درويش، ففي "سبع الغياب" الذي طلّ قبل يومين، قد يجنح قارئ ما إلى استعادة شعره، قصيدة فأخرى، وإذ بالباب ينفتحُ لا أمام الشعر في أبهى صوره العربية فحسب، بل أمام تراثنا الشعري الغني، فضلًا عن الشعر العالمي. وقد يشغف القارئ بالإيقاع المنساب في قصائد درويش، فيحدوه الفضول صوب الوزن، فما هو الوزن؟ وإذ بكتب التراث والعروض تجد سبيلها إلى القارئ. وإذ تعمّق أكثر، انتبه ربّما إلى الشكل الشعري، فطاف في أنواعه شرقًا وغربًا، وعاد إلى الفلسطيني الأجمل، ليجد لديه الأشكال كلّها، وقد زاد عليها من عنديّاته ابتكارات وإبداعات، محكمة البناء، واثقة السحر والصدى. ولو ملّ القارئ من متابعة ذلك، والتفت إلى المعاني، لشهد صيد الخيال وأسر المتخيّل، ولعرف كيف تتبادل الحكاية الشخصيّة والحكاية العامّة مراتب الكلام، لتتحدا معًا، ثمّ تحلّقان في سماء الوجدان، فيغدو التعبير السياسي "القضية الفلسطينية" عنوانًا بليغًا لالتزام أخلاقي، لا يقتصر على القارئ العربي وحده، بل على أي قارئ أو مثقّف من أي جنسية يكون.
هكذا تتسع القصيدة الدرويشية، شجاعة غير هيّابة وغير مغلقة، ليجد القارئ نفسه أبعد من حبّ درويش وحده، وفي حضرة حبّ الشعر برمّته.
وها هنا الفرق كلّه، إذ ثمّة شعراء، وغير شعراء أيضًا، يتّصفون ببخل في الروح، صورته تلك؛ النرجسية المطلقة. متنزهين حول "أناهم" وأحكامها الجاهزة، عن عبقريتهم المنقطعة النظير. مفتونون بأمرٍ وحيد: الإتيان بما لم يأتِ به الأوائل. لذا يحتفون بانعدام الجذور، ظنًا منهم أن في الانقطاع المصطنع في قصيدة، سبيلًا لتجديدٍ لا يعشّش إلا في أذهانهم. وتراهم صارخين ضاجّين ناقمين عدائيين، يمضون أوقاتاً طويلة في نبش كلّ ما هو شرّ، وعلى صورتهم بالطبع، كي ينتشوا وهم يبثّون اليأس ويطلقون الكراهية، مطبّلين مزمّرين لخرابٍ من كلّ نوع: طارف وتليد.
ثمّة كتّاب يضيئون الثقافة، وآخرون يعتّمون عليها. وثمة في رام الله مقام، يرقد فيه محمود درويش: أمير التلال.

المساهمون