عادة "السكبة": تآلف قلوب السوريين في رمضان

عادة "السكبة": تآلف قلوب السوريين في رمضان

31 مارس 2023
يحافظ السوريون بقدر استطاعتهم على عادة "السكبة" في موائد رمضان (محمد سعيد/ الأناضول)
+ الخط -

مع قدوم شهر رمضان كل عام يتجدد ظهور عادات سورية عرفها الأهالي منذ عشرات السنين وتوارثوها جيلاً بعد جيل، مثل تبادل الأطباق والطبخات بين الجيران التي تعرف باسم "السكبة". واعتادت ربات المنازل إرسال طبق إفطار من أكلاتها الشهيرة لجيرانها كي تظهر مهارتها في فن الطبخ، وتفسح في المجال أمام توطيد العلاقات الاجتماعية معهم.
وفي مشهد يتكرر مرات يومياً خلال شهر رمضان تحث أم أحمد ابنها قبل أذان المغرب على أن يسرع الخطى لإيصال صحن يحمله إلى جارتها، فيرتبك الطفل في تنفيذ طلب والدته من خلال إسراع الخطى من دون أن يسكب شيئاً من محتويات الصحن على الأرض خلال مشواره.
وتتكرر مهمة أحمد حين يسلم الصحن الذي أرسلته والدته إلى الجارة، إذ يتسلم مجدداً صحناً آخر لنقله إلى والدته.

تقول أم أحمد لـ"العربي الجديد": "أحافظ بقدر استطاعتي على عادة السكبة المتمثلة في إيصال طبق من الطعام طبخته يومياً إلى إحدى جاراتي، وذلك بغض النظر عن نوع الطبخة التي جهّزتها، علماً أنه يمكن أن أرسل طبخة للجارة نفسها يومياً أو أنوّعها بين جاراتي ورفيقاتي اللواتي يفعلن الأمر ذاته أيضاً".
تضيف: "السكبة عادة قديمة تدلّ على الكرم، فحين ترسل جارة طبق طعام إلى أخرى تفعل ذلك لأنها أحبت أن تشاركها ما تأكله بغض النظر عن نوعية الطعام. وبعض السيدات قد يبادلن جارتهن الأخريات الفعل نفسه فوراً، ويرسلن صحون طعام من منازلهن، بينما قد تؤجل أخريات ذلك إلى يوم آخر في حال تملكهن الحرج من إرسال كمية من الطبق الذي حضرنه للإفطار، أو في حال كانت وجبتهن مخزّنة من الأمس. وفي كل الأحوال تساعد هذه العادة في تآلف القلوب، وتعزز صفات الكرم بين المجتمع التي يتعلمها الصغار أيضاً من خلال مساهمتهم في نقل الأطباق". وهكذا تتنوع الأكلات على موائد العائلات السورية لأن الجارات يتبادلن المبادرة، وترسل كل منهن طبقاً لأكلتها.
تؤكد أم خالد أن هذه العادات إيجابية، وتقول لـ"العربي الجديد": "السكبة من العادات الجميلة التي ما زالت منتشرة بين الأهالي، وقد تستعملها سيدة لمشاركة جاراتها في جودة طبخها وإظهار إتقانها تزيين وترتيب الأطباق، وصولاً حتى إلى خلق منافسة بينهن في وقت يعتبرن أن الأطباق المقدمة تعكس حياتهن في منازلهن".
لكن أم خالد تستدرك بأن "هذه العادة قد تحرج بعض العائلات الفقيرة التي تجد نفسها أحياناً غير قادرة على تحضير طبخة جيدة على مائدة الإفطار، فتردّ السكبات التي تصلها من جيرانها". وهنا تخالف أم أحمد رأي أم خالد وتؤكد أن "محتويات الأطباق ليست مهمة بمقدار المبادرة نفسها، فتذكّر جارة أو ردها بدورها الطبق بالمثل يعني أنها تهتم بها أيضاً".

الصورة
اثرّت حياة النزوح على العلاقات الاجتماعية في رمضان (عارف وتاد/ فرانس برس)
أثرّت حياة النزوح على العلاقات الاجتماعية في رمضان (عارف وتد/ فرانس برس)

وتتفق الجارتان على أن هذه العادة يجب أن تستمر رغم تراجع الأحوال المادية، بسبب مساهمتها الكبيرة في زرع التآلف والمحبة بين الناس، ولأنها بين مظاهر الكرم التي يتميز بها السوريون، والتي من الضروري أن ترافق عادات رمضان.
وفي المدن الكبيرة لا تبدو هذه العادة مهمة كما في الأرياف ومناطق المخيمات، باعتبار أن العلاقات الاجتماعية لا تنتشر في شكل واسع، وقد لا يعرف جيران يقيمون في المبنى نفسه بعضهم البعض، بحسب ما يرى أبو الزين الذي يقيم في مدينة إدلب (شمال غرب).
ويقول أبو الزين لـ"العربي الجديد": "العلاقات الاجتماعية بين الجيران قد لا تكون وطيدة بشكل يسمح بتبادل السكبة بينهم، وطبيعة التنقل التي فرضتها حياة النزوح، وما رافقها من استئجار منازل عدة لم تسمح لنا ببناء علاقات وطيدة مع الجيران والتي قد لا تتعدى إطار معرفة الاسم وإلقاء تحية الصباح".
وتعلّق زوجته بالقول لـ"العربي الجديد": "حاولت شخصياً التعرف إلى جاراتي وبناء علاقات معهن، وأرسلت السكبة مرات لبعضهن، لكنهن لم يبادلنني التصرف نفسه ما دفعني إلى التوقف والاحتفاظ بعاداتي وتقاليدي لوقت آخر".

وبينما يعارض آخرون رواية أبو الزين وزوجته، ويرون أن عادة "السكبة" موجودة في غالبية المجتمعات السورية بنسبة انتشار تختلف بين مكان وآخر بحسب قوة العلاقات الاجتماعية الموجودة بين الجيران، إلا أن حياة النزوح التي عاشها أهالي إدلب أثّرت سلباً على علاقاتهم الاجتماعية.
وفي شمال غرب سورية التي باتت مناطقها صورة مصغرّة عن المجتمع الذي يضم أهالي من كافة المحافظات إضافة إلى مهاجرين أسسوا عائلات في المنطقة وباتوا يمارسون حياتهم الطبيعية فيها، بات لـ "السكبة" دور يضاف إلى الأساسي الذي تلعبه في توطيد العلاقات بين الجيران.
ويقول سامر عبد الكريم الذي يقيم في مدينة إدلب لـ"العربي الجديد": "لم أتوقع يوماً أن أشاهد طبق كسكسي على مائدتي. كنت أسمع عن انتشاره في المغرب العربي لكنني تذوقته أخيراً بعدما ردّت جارتنا المغربية إلينا سكبة المحاشي التي أرسلتها زوجتي بأخرى من طبق الكسكسي. وشعرت حينها أن السكبة أتاحت لنا فرصة  جديدة  للتعرف إلى عادات وثقافات مختلفة". يضيف: "صرت أطلب من زوجتي أن تشارك جيراننا بوجباتنا السورية المشهورة كلما تعدّ واحدة منها مثل الكبة والمقلوبة والملوخية كي نتعرف إلى أكلاتهم المشهورة ونعرّفهم إلى أكلاتنا".

المساهمون