استقالة ظريف المفاجئة: الأسباب والمآلات المتوقعة

استقالة ظريف المفاجئة: الأسباب والمآلات المتوقعة

27 فبراير 2019
توقيع الاتفاق النووي من أبرز إنجازات ظريف(فابريس كوفريني/فرانس برس)
+ الخط -
بقدر ما كانت استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مفاجئة عند إعلانه عنها، مساء الإثنين، وبطريقة غير مألوفة لم تعهدها السياسة الإيرانية من قبل، إذ جاءت عبر صفحته على تطبيق "إنستغرام"، بقدر ما اختلفت القراءات والتحليلات لدوافعها وأسبابها، غير أنها عكست مع الردود العديدة التي صدرت عليها، أكان في الداخل أو خارجياً، إرباكاً كبيراً داخل مؤسسة صناعة القرار الإيراني. كذلك فتحت هذه الاستقالة باب التساؤلات حول التبعات المتوقعة لها، خصوصاً ترويج أنباء عن توجّه إيران للانسحاب من الاتفاق النووي في الفترة المقبلة، في ظل ضغوط خارجية كبيرة عليها، لا سيما من الولايات المتحدة وحلفائها، فيما تُعتبر استقالة رجل "الدبلوماسية العلنية" ضربة قوية لسياسة الرئيس الإيراني حسن روحاني الخارجية، الداعية إلى الانفتاح على العالم.

ودلّ إعلان ظريف عن قراره بشكل علني عبر تطبيق "إنستغرام"، على أنه "يريد من الرئيس أن يقبلها"، كما كتبت وكالة الأنباء الطالبية "إيسنا" نقلاً عن رئيس لجنة الأمن الوطني والخارجية في البرلمان حشمت الله فلاحت بيشه، علماً أنه سبق لظريف أن قدّم استقالته عدة مرات سابقاً من دون أن تُقبل. وبينما لم يتحدث ظريف عن الأسباب التي دفعته لاتخاذ قراره، فإنه دعا الدبلوماسيين في الخارجية الإيرانية إلى البقاء في مناصبهم ومواصلة عملهم في الدفاع عن مصالح الجمهورية الإسلامية. وقال ظريف، كما نقلت عنه وكالات أنباء إيرانية أمس: "إنّ تأكيدي لجميع إخوتي وأخواتي الأعزاء في وزارة الخارجية وممثلياتها هو أن يتابعوا مسؤولياتهم في الدفاع عن البلاد بقوة وصلابة وأن يتجنّبوا بشدة مثل هذه الإجراءات". وكان يرد، بحسب وكالات إيرانية، على شائعات مفادها أن عدداً كبيراً من الدبلوماسيين الإيرانيين يستعدون للاستقالة دعماً له.

وبذلك تُطرح تساؤلات ملحّة عن الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار "الثقيل" على إيران في هذا التوقيت الحساس، في وقت لم يشر فيه الوزير إليها في النص المنشور على تطبيق "إنستغرام"، لا من بعيد ولا من قريب، ولو بإشارة مبطنة. وعند البحث عن الإجابات، تبرز أسباب مستجدة وأخرى قديمة، التقت عند نقطة معيّنة، يوم الإثنين، فأدت إلى اتخاذ قرار الاستقالة من قبل "الدبلوماسي الإيراني الضاحك"، كما يسميه كثيرون داخل إيران وخارجها.

في الأسباب العاجلة، فإن الأمر على ما يبدو له علاقة بزيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران، يوم الاستقالة، إذ التقى بالمرشد الإيراني علي خامنئي، صباح الإثنين، قبل أن يجتمع بالرئيس الإيراني حسن روحاني مساء. وفي هذا السياق، عزا النائب الإصلاحي إلياس حضرتي، في تصريح لوكالة "إرنا" الإيرانية الرسمية، سبب الاستقالة إلى عدم علم ظريف بزيارة الأسد، قائلاً "أظن أن ظريف استقال من منصبه لعدم علمه بزيارة بشار الأسد لطهران"، لافتاً إلى "عدم وجود تنسيق في السياسة الخارجية، وتدخّل مؤسسات مختلفة فيها"، مطالباً روحاني برفض الاستقالة. وعن أسباب أخرى للاستقالة، أوضح حضرتي أن عدم إقرار التشريعات المتعلقة بانضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي الدولية "فاتف" في مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران، يعتبر دافعاً إضافياً آخر لاستقالة ظريف.

وبرز رد ظريف على استفسار لمراسل موقع "انتخاب" الإخباري، أرسله إليه عبر رسالة نصية على هاتفه النقال، وفيه إشارة مبطنة إلى علاقة ما بين استقالته وزيارة الأسد، إذ قال إنه "بعد انتشار صور لقاءات اليوم (الإثنين)، ليست لجواد ظريف مصداقية كوزير خارجية في العالم"، وذلك في إشارة إلى لقاءات الأسد مع خامنئي وروحاني. وذكر موقع "انتخاب" نقلاً عن مصدر مطلع أن "وزير الخارجية تضايق مما حدث في لقاءات الإثنين، وأن ذلك كان ناتجاً عن سوء التنسيق، فهو يعتبر رمزاً لاقتدار إيران وعظمتها".

سبب آخر برز في كلام لنائب رئيس البرلمان الإيراني، علي مطهري، الذي نقلت وكالة "إيسنا" الإيرانية عنه قوله إنه "يعتقد أن السبب الرئيسي للاستقالة يعود إلى تدخّلات بعض المؤسسات في السياسة الخارجية"، من دون أن يسمّيها، مؤكداً في الوقت ذاته أنه "يجب ألا يوافق الرئيس روحاني على استقالة ظريف، لأنه لا بديل له كوزير للخارجية".

وكان ظريف، وفي مقابلة مع صحيفة "جمهوري إسلامي" قبل استقالته، نشرتها الصحيفة أمس الثلاثاء، قد اشتكى من عدم إقرار التشريعات لانضمام إيران إلى مجموعة "فاتف"، ومواضيع أخرى لها علاقة بإدارة ملف السياسة الخارجية، ما يؤكد أن أسباباً متراكمة دفعته إلى اتخاذ هذا القرار. وقال ظريف في المقابلة، إن الصراع بين الأحزاب والفصائل في إيران له تأثير "السم القاتل" على السياسة الخارجية، مضيفاً "يتعين علينا أولاً أن نبعد سياستنا الخارجية عن قضية صراع الأحزاب والفصائل... السم القاتل بالنسبة للسياسة الخارجية هو أن تصبح قضية صراع أحزاب وفصائل". ولفت إلى أنه اتّبع توجيهات المرشد الأعلى علي خامنئي خلال المفاوضات النووية. وأضاف أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون هما اللذان تقع عليهما اللائمة في الانسحاب الأميركي من الاتفاق وليس روحاني. وتابع "لماذا تنددون برئيس الشعب المنتخب وبالسياسة الخارجية بدلاً من التنديد بترامب؟‭ ‬تُرى أي نتيجة قد تنجم عن هذا؟ النتيجة هي أن الشعب سيفقد الأمل في المستقبل".


في موازاة ذلك، اتهم أنصار الحكومة "مؤسسات محافظة" بالتدخّل في عمل الخارجية الإيرانية، فيما اعتبرت أوساط محافظة، منها كتلة "الولائيين" الأصولية في البرلمان الإيراني، في بيان أصدرته أمس، أن استقالة ظريف تعود إلى "خلافاته مع روحاني"، ليرد رئيس مكتب الرئاسة الإيرانية، محمود واعظي، بالقول إن "إشادة الرئيس روحاني، خلال تصريحاته اليوم، بالسيد ظريف وإنجازاته، يُعتبر رداً قاطعاً على بعض التفسيرات الخاطئة والمغرضة"، وذلك في إشارة إلى كلمة روحاني، أمس الثلاثاء، أمام حشد من مدراء البنوك الإيرانية، إذ قدّم الشكر لظريف على "صموده"، وأشاد به بشكل ملفت للنظر. وقال روحاني إن ظريف يقف في طليعة المعركة ضد الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، لا يمكن أن تكون الاستقالة بعيدة عن الخلافات الداخلية بشأن الاتفاق النووي الذي توصّلت إليه إيران والمجموعة السداسية الدولية في يوليو/ تموز 2015، والذي ارتبط به اسم ظريف، إذ يعتبره مؤيدوه الإصلاحيون ومعارضوه المحافظون في الداخل الإيراني مهندس هذا الاتفاق، وهو أكبر إنجاز له ولروحاني على مدار السنوات الست الماضية.

وبسبب الاتفاق، تعرّض ظريف وفريقه المفاوض على مدى هذه السنوات، إلى ضغوط كبيرة وانتقادات لاذعة من خصوم الحكومة المحافظين، ولا سيما من المتشددين منهم، وصلت أحياناً إلى مستوى تخوينه هو وفريقه، خصوصاً بعدما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق في مايو/ أيار 2018، وأعادت العقوبات على إيران على مرحلتين، في أغسطس/ آب ونوفمبر/ تشرين الثاني الماضيين. وكان الاتفاق يمثّل العامل الرئيس وراء استدعاء ظريف من قبل نواب محافظين إلى أروقة البرلمان الإيراني مرات عدة، خلال السنوات الأخيرة، وفي إحدى هذه الجلسات، صرخ ظريف قائلاً: "لماذا تريدون تحويل افتخار الشعب الإيراني إلى العار والمذلة؟".

ولم تشفع لظريف تأكيداته وفريقه طيلة هذه السنوات، أن المفاوضات النووية ومن ثم الاتفاق لم تكن قراراً شخصياً، وإنما كانت قرار النظام الإيراني، وأن الاتفاق أبطل مفعول 6 قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي ضد برنامج إيران النووي، وأخرج بلاده من تحت الفصل السابع، بل زادت الضغوط عليه خلال الأشهر التسعة الماضية بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وأصبح المتشددون من التيار المحافظ يحمّلونه مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد الاقتصادية، معتبرين أنها من ثمرات الاتفاق النووي الذي تحوّل إلى اتفاق من جانب واحد، تنفذ طهران تعهداتها بينما لا يلتزم بقية الشركاء بالتزاماتهم، على حد قولهم.

وفي هذا السياق، نقلت وكالة "رويترز" عمن قالت إنه حليف مقرب من ظريف، أن الخلافات الداخلية في إيران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، أجبرت ظريف على إعلان استقالته. وأضاف "ظريف والرئيس روحاني يتعرضان لضغط هائل من كبار المسؤولين منذ مايو الماضي... انسحاب الولايات المتحدة زاد الخلافات الداخلية السياسية في إيران".
وعليه، يمكن القول إن قرار ظريف الاستقالة يرتبط بتداعيات هذا الانسحاب الأميركي، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار ملابسات إشاعة نيّة ظريف الاستقالة خلال الشهر الماضي، أثناء زيارته للهند، وقيل حينها إن السبب وراء ذلك يعود إلى قرار اتخذته إيران بالخروج من الاتفاق النووي. واليوم بعدما تحوّلت استقالة ظريف من إشاعات إلى أمر واقع، يبقى السؤال عن مصير "الإشاعة الأخرى"، أي وجود نيّة جادة لدى السلطات الإيرانية للانسحاب من الاتفاق النووي، فهل تصبح هذه الإشاعة في حكم خبر مؤكد خلال الفترة المقبلة؟ وهل تكشف استقالة ظريف مسبقاً عن وجود مثل هذا القرار؟

عموماً أياً تكن دوافع ظريف للاستقالة، فقد لفتت، أمس، ردود الفعل الواسعة الرافضة لقراره هذا، حتى من قبل المعارضين له في البرلمان الإيراني، الذين لم يتوانوا للحظة عن مهاجمته خلال السنوات الماضية، إذ إن كتلة "ولائيين" المتشددة أكدت، في بيان لها أمس، "ضرورة أن يبقى الوزير ظريف في منصبه". كما أن 135 مشرّعاً في البرلمان عبّروا عن رفضهم لهذه الاستقالة في رسالة وجّهوها إلى روحاني. كذلك تحدثت وسائل إعلام محلية عن اتصالات مكثّفة يجريها مع ظريف أكثر من مسؤول إيراني، في مقدمتهم نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري، لدفعه إلى التراجع عن قراره.

ويصرّ الرئيس الإيراني على رفض الاستقالة للإبقاء على "ماركة حكومته"، كما وصفه خلال إحدى جلسات مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، العام الماضي، خصوصاً أن استقالة رجل "الدبلوماسية العلنية" تُعتبر ضربة قوية لسياسة روحاني الخارجية، الداعية إلى الانفتاح على العالم، في وقت تتعرض فيه إيران لضغوط أميركية على مختلف الأصعدة، اقتصادياً، وسياسياً، وإقليمياً ودولياً.