"سنّة 8 آذار" في لبنان: من النظام السوري إلى "حزب الله" (1/2)

29 نوفمبر 2018
يعمل حزب الله على محاصرة الحريري حكومياً (حسين بيضون)
+ الخط -

مع انسداد أفق تأليف الحكومة اللبنانية، بدأ يتردد أن العقدة متمثلة في ما يصطلح على تسميته بتمثيل سنّة "8 آذار"، بدعم من "حزب الله"، الذي يرفض تسليم رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أسماء الوزراء الثلاثة المحسوبين عليه قبل التأكد من تمثيل هؤلاء، فيما يرفض الحريري رفضاً قاطعاً، باعتبار أن تأليف الحكومة من صلاحياته، وأن هؤلاء لا يشكلون كتلة نيابية واحدة، وموزعون على كتل أخرى.

فمن هم الذين يسمون في لبنان "نواب سنّة حزب الله" أو "نواب سنّة 8 آذار"؟
في لحظة صدام سياسي في التاريخ اللبناني الحديث انقسم الشارع في لبنان. ففي عام 2004 تمّ تشكيل لقاء البريستول، كرأس حربة مواجهة النفوذ السوري في لبنان، واتسع بعد أن كان مقتصراً على شخصيات وأحزاب سياسية مسيحية، فتمّ مدّ اليد نحو رئيس الحكومة المُغتال رفيق الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لتفتح معركة خروج النظام السوري من لبنان، ورفع وصايته، بتأييد ودعم غربي وأميركي.

صعود لقاء البريستول كان لا بد من مواجهته بتحالف آخر. يومها دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى لقاء للشخصيات المحسوبة على النظام السوري، عُقد في مقر إقامته في عين التينة، ضمّ أساساً "حزب الله" وحركة "أمل"، بالإضافة إلى شخصيات سياسية على الساحة المسيحية والدرزية والسنية، لم تكن وازنة.

ومع اغتيال رفيق الحريري، وانسحاب النظام السوري من لبنان، بدا الفرز الطائفي السياسي واضحاً. أغلبية شيعية مطلقة في صفوف "8 آذار"، وأغلبية سنيّة مطلقة في صفوف "14 آذار"، وانقسام مسيحي ودرزي. وضع يومها كل طرف مهمة خرق صفوف الطرف الآخر نصب عينيه، بما لذلك من ضرورة تخرج الصراع من حيثيته الطائفية، إلى مشروع وطني أكبر.

دعم تيار "المستقبل"، والذي تمدّد إثر اغتيال الحريري إلى كل الساحة السنّية اللبنانية، شخصيات شيعية مستقلة لمواجهة "حزب الله" في شارعه، فيما دعم "حزب الله" شخصيات سنّية لمواجهة تيار "المستقبل" في عقر داره. سريعاً سقط رهان "المستقبل" على قدرته على خرق الساحة الشيعية، لعوامل عدة، لعل أهمها إطباق الحزب على ساحته بفعل السلاح، والتحالف مع حركة "أمل"، إضافة إلى السياسات التي اتبعها "المستقبل"، وأدّت إلى تهميش الشخصيات الشيعية المستقلة، مثل الاتفاق الرباعي في انتخابات عام 2005.

وفي مقابل سقوط مشروع تيار "المستقبل" على مراحل، بدا أن "حزب الله" يسير بخطى ثابتة لتأكيد حضوره في الساحة السنّية عبر حلفاء أساسيين منقسمين إلى شخصيات مستقلة، ذات حضور عائلي تاريخي في مناطقها، مثل عمر كرامي (في طرابلس)، وجهاد الصمد (في الضنية شمالاً)، ووجيه البعريني (في عكار)، وعبد الرحيم مراد (في البقاع)، وأسامة سعد (في صيدا)، وإلى أحزاب أو شخصيات دينية، مثل الداعية فتحي يكن وجمعية "المشاريع الخيرية الإسلامية" المعروفة بـ"الأحباش".

لم يتكل الحزب على الحلفاء ضمن البيئة السنّية فحسب، بل دخل إليها بقوة مع مليشيا "سرايا المقاومة"، التي أسسها لتكون فصيلاً يضم عناصر مسلحة غير شيعية، على الرغم من أن معظم أعضائها هم من الطائفة السنّية. أوكل إلى هذا الفصيل مهام "البلطجة" المسلحة، خصوصاً تلك التي لا يمكن لعناصر نظامية في "حزب الله" القيام بها، مثل قطع الطرقات، أو بعض الإشكالات في الشارع السني، إضافة إلى ظهورهم بقوة في أحداث 7 مايو/ أيار من عام 2008.



يندر في مناسبات "حزب الله" ألا يتصدر الصفوف الأمامية تنوّع طائفي مفتعل، بهدف الإيحاء بأنه (أي الحزب) محتضن لبنانياً من كل الطوائف. في ذلك رسالة رئيسية للخارج وللداخل على حدّ سواء، ولهذا عادة ما يمكن ملاحظة شيوخ من الطائفة السنية في صفوفه الأولى، إضافة إلى شخصيات سياسية وازنة، يؤكد الحزب عبرها حضوره، وتخطيه لـ"شيعيته". ولعل التأكيد على حضوره سنّياً، يبدو أنه المهمة الأبرز، خصوصاً أنه على مدار الأعوام الماضية نجح في تأمين غطاء مسيحي أساسي له عبر التحالف مع "التيار الوطني الحر"، وطبعاً لأسباب متعلقة بشكل الصراع في المنطقة الذي يتخذ طابعاً طائفياً، أو بتعبير أدق طابع صراع سني – شيعي، يتعدى لبنان إلى المنطقة عموماً.

ما أمّنه وزن "التيار الوطني الحر" السياسي لـ"حزب الله" لم يكن موازياً لقدرة الحلفاء في الطائفة السنّية على تأمينه. بقي حضور هؤلاء ضعيفاً في البيئة السنّية على الرغم من رعاية "حزب الله" وكذلك إيران لهم، خصوصاً أن الانقسام السياسي والمذهبي في البلاد جعل هؤلاء منبوذين ضمن بيئتهم على الرغم من حضورهم التاريخي كعائلات أو كأحزاب أو كشخصيات دينية.

منذ انسحاب القوات السورية من لبنان، قيل يومها إن "دمشق سلّمت البلد لحزب الله". فعلياً نجح الحزب على الرغم من عدم حصوله والحلفاء في الطوائف الأخرى على الأغلبية النيابية، في الإطباق على الحياة السياسية، فارضاً شروطه ووجوده منذ عام 2005، قبل أن ينجح في الانتخابات النيابية الأخيرة، في تحقيق أغلبية نيابية قال يوماً عنها قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، إنها "أفرزت فوزاً للحزب بواقع 74 نائباً".

ومنذ عام 2005 نقل كثر، وتحديداً الحلفاء في الطائفة السنّية، الرعاية من النظام السوري إلى "حزب الله". معظم هذه الشخصيات والأحزاب رعاها النظام السوري قبل عام 2005، وشكّلت ركيزة في طريقة إدارة النظام السوري للشأن اللبناني القائمة على الفرز ضمن كل طائفة، وعلى رعاية شخصيات وأحزاب قادرة على مقارعة من تعتبره سورية مناوئاً لها، أو مشروعاً يهدد حضورها. استخدم النظام السوري مراراً هؤلاء ضد رفيق الحريري، الذي كان ممنوعاً عليه التمدد شعبياً خارج بيروت. وحتى في العاصمة فرضت عليه بعض الأسماء على لوائحه الانتخابية، كانت تُسمّى بـ"الودائع السورية"، مثل النائب السابق باسم يموت، والنائب السابق عدنان عرقجي، سنّياً، والنائب السابق ناصر قنديل شيعياً.

انتقل معظم هؤلاء من الحضن السوري إلى حضن "حزب الله" تدريجياً، على الرغم طبعاً من المحافظة على العلاقة الوثيقة بالنظام السوري، والزيارات الدورية، حتى بعد الثورة السورية (2011)، ما أدى إلى تعميق أزمة الشارع السنّي مع هؤلاء.

عملياً لا يمكن إلا الإشارة إلى أن "حزب الله" وبلغة الأرقام نجح في تثبيت قدم له في الساحة السنّية. وهو الأمر الذي لم ينجح فيه تيار "المستقبل" في الساحة الشيعية. في أرقام الانتخابات الأخيرة، وفق مركز "الدولية للمعلومات"، نالت اللوائح التي دعمها الحزب في لبنان نحو 15 ألف صوت سنّي، فيما لم ينل تيار "المستقبل" سوى 3 آلاف صوت شيعي.

يقول كثر إن "هذه الأصوات السنّية تنقسم إلى أغلبية محسوبة على حزب الله مباشرة، عبر (سرايا المقاومة)، إضافة إلى بعض الأصوات التي تدور في فلكه، بناءً على حالات عائلية لا أكثر، وهذه الأرقام لا تضمّ ما يسمى (السنّة المستقلين) باستثناء الوليد سكرية الذي ترشح على لائحة الحزب في دائرة بعلبك ــ الهرمل (شرقي لبنان)".

عموماً شكلت الانتخابات الأخيرة ضربة قوية لتيار "المستقبل"، خصوصاً أن القانون الانتخابي لم يصب في مصلحته بل في مصلحة "حزب الله"، إضافة إلى عوامل أخرى، منها سوء التكتيك الانتخابي والتحالفات التي خاض "التيار" على أساسها المعركة، إضافة إلى التخبط السياسي، والتراجع الشعبي، وانفراط عقد تحالف "14 آذار". كلها أدت إلى تراجع "التيار" وتقدّم بعض الشخصيات الأخرى.