القمة الفرنكوفونية في تونس: أسئلة الصمود وعزلة قيس سعيّد

القمة الفرنكوفونية في تونس: أسئلة الصمود وعزلة قيس سعيّد

19 نوفمبر 2022
قد تكسر القمة الفرنكوفونية بعضاً من عزلة سعيّد (الأناضول)
+ الخط -

تنطلق في جزيرة جربة التونسية، اليوم السبت، أعمال القمة الفرنكوفونية، التي تتواصل إلى يوم غد الأحد، وذلك بالتزامن مع الذكرى الخمسين لإنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني، التي شهدت النور في 20 مارس/ آذار 1970، وأطلق عليها لاحقاً اسم المنظمة الدولية للفرنكوفونية. 

وتنعقد القمة بعدما جرى تأجيلها العام الماضي بسبب جائحة كورونا كما أُعلن رسمياً، ولكن أيضاً بسبب تردد بعض الدول بشأن عقدها في تونس، نتيجة الأوضاع السياسية التي لقيت انتقادات من عدد من الشخصيات الفاعلة في الفضاء الفرنكوفوني، وهو ما قد يلقي بظلاله على جزء من أعمال هذه الدورة.

عدنان منصر: الفرنكوفونية في العمق رابطة استراتيجية، وتونس تواصل انتماءها لهذه الرابطة

وإضافة إلى الأسئلة التي تثيرها هذه القمة حول صمود الفضاء الفرنكوفوني أمام التكتلات الجديدة والتحالفات التي تتشكل وتتفكك، فإن الأنظار تتجه إلى إمكان إثارة مسألة الحريات والحقوق في تونس خلال القمة، إضافة إلى وضع الرئيس قيس سعيّد الذي يعاني نوعاً من العزلة الدولية منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021.

89 وفداً رسمياً سيشاركون في القمة الفرنكوفونية

وقال المنسق الإعلامي للقمة الفرنكوفونية محمد الطرابلسي، في تصريح صحافي، إن 89 وفداً رسمياً ممثلاً للدول والمنظمات الدولية أكدوا مشاركتهم في القمة الفرنكوفونية في جزيرة جربة، منهم 31 رئيس دولة وحكومة و5 نواب وزراء دول، وعدد هام من وزراء الخارجية والوزراء المكلفين بالفرنكوفونية وعدد من الوزراء الآخرين. ولم يكشف الطرابلسي عن أسماء القادة المشاركين، فيما أُعلن فقط من كندا عن مشاركة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو.

وأضاف الطرابلسي أن القمة "ستتناول مواضيع هامة تمثل تحديات على مستوى الإنسانية وعلى مستوى الفضاء الفرنكوفوني، منها تشغيل الشباب والمرأة والرقمنة، كوسيلة لتطوير التعاون الاقتصادي والاندماج الاقتصادي داخل الفضاء الفرنكوفوني، وتحديات مواطنية سيقدم فيها رؤساء الدول والحكومات رؤيتهم المستقبلية".

ولفت الطرابلسي إلى أن تونس ستترأس القمة خلال السنتين المقبلتين، وستقدّم رؤيتها للتعاون داخل الفضاء الفرنكوفوني، مضيفاً أن قمة جربة ستفرز "إعلان جربة"، الذي سيتضمّن الرؤية المستقبلية للتعاون داخل الفضاء الفرنكوفوني، إلى جانب مساهمة تونس والمنظمة الفرنكوفونية وبقية الدول الأعضاء والمنظمات في هذا الفضاء.

تونس دولة مؤسسة لمنظمة الفرنكوفونية

من جهته، لفت رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "تونس دولة مؤسسة لمنظمة الفرنكوفونية منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة".

وشدد على أن "المسألة عميقة في التاريخ الفرنسي، حيث طرحت الفرنكوفونية في أواخر القرن 19 كرابطة لغوية استراتيجية في مواجهة الإنغلوسكسونية، وبالتالي ظهرت وسط نخب فرنسية مرتبطة بالظاهرة الاستعمارية، وكرد في سياق التنافس مع بريطانيا في سباق التوسع".

وأوضح منصر أن "الفرنكوفونية تبدو في الظاهر كرابطة لغة، ولكنها في العمق رابطة استراتيجية، وتونس تواصل انتماءها لهذه الرابطة، وهي طبعاً مواصلة لاختيار استراتيجي، وليس بالضرورة سيادي".

وأضاف: "صحيح أن تونس منتفعة، ولكنها تبقى دولة من ضمن هيكل جيوستراتيجي وليس فقط ثقافي ولغوي"، معتبراً أن سعيّد "يواصل السياسة نفسها التي تضع تونس في دائرة التأثير الفرنسي".

القمة قد تكسر بعضاً من عزلة سعيّد

وبيّن منصر أن "سعيّد في عزلة خارجية لا شك فيها، وحتى (الرئيس الراحل) الباجي قائد السبسي، كان يتنقل أكثر منه في الخارج على الرغم من عامل السن. وما عدا الجزائر كانت أغلب التنقلات لسعيّد إما للقمة العربية، أو لقاءات متعددة الأطراف، أو زيارات تعزية، ولم تنشأ عنها اتفاقيات، وهذه القمة قد تكسر بعضاً من هذه العزلة".

وأشار إلى أن "سياق 25 يوليو، والاعتداءات على الحريات خلقت نوعاً من البرود في علاقات تونس بالدول الأوروبية، والقمة الفرنكوفونية تأخرت بسبب الموقف الكندي من إيقاف البرلمان التونسي، وإيقاف العمل بالدستور".

وأفاد منصر بأن "انعقاد القمة يفك نوعاً من العزلة"، مضيفاً: "أعتقد أن بعض الدول مثل كندا قد تثير مسألة الحريات والحقوق خلال الأعمال، ولكن لن تكون إثارة هامة"، مبيناً أن "ما يثار حول الإنكليزية والفرنكوفونية، ودعوات التخلي عن الفرنسية، مجرد فلكلور، لأن تونس مرتبطة بالسوق الفرنسية، وبالأسواق الفرنكوفونية أكثر من أي فضاء آخر، وليس من السهولة تجاوز تراكم عقود من الزمن والتعاملات داخل هذا الفضاء وتغييره".

وأضاف أن "المسألة هي انتماء إلى فضاء جيوستراتيجي، تفرضه المصالح"، مبيناً أن "لا أحد يجبرك على ذلك، ولكن هناك مصالح، فإذا توقف التمويل الفرنكوفوني مثلاً في المجال السينمائي فسيتوقف إنتاجه"، مؤكداً أن "النخب الثقافية تنشط بتمويلات من الفرنكوفونية، وهي منظومة كاملة، وهو أمر واقع تكوّن خلال 50 عاماً ويصعب التخلص منه، والداعون إلى ذلك لا يقدمون بديلاً".

وأشار إلى أن "اللغة تخلق نوعاً من التقارب وهناك مصالح بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتونس مستفيدة من ذلك، وأغلب المعارف والعلوم تدرّس بالفرنسية. وبالتالي هو ليس مجرد قرار سياسي آني، بل نتاج تراكم وترابط لسنوات، ويحتاج إلى جيل أو جيلين لتحقيقه".

لا مواقف واضحة للأحزاب بخصوص القمة

حزبياً، لم تصدر مواقف واضحة للأحزاب التونسية بخصوص هذه القمة، باستثناء الحزب الجمهوري، الذي أصدر بياناً، الأربعاء الماضي، قال فيه إنه "بقطع النظر عن تقييمه لتوجهات منظمة الفرنكوفونية ودورها، فإنه يتوجه إلى رؤساء الدول والحكومات والوفود المشاركة في هذه القمة، انطلاقاً مما أعلنوا عنه من اهتمام بدعم الديمقراطية حول العالم، ويطلب منهم الإحجام عن الخوض في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية على أرض بلد تستباح فيه الديمقراطية، وتفكك مؤسساته، وتنتهك فيه الحريات العامة والفردية، ويدجن فيه القضاء وتضيق فيه مساحة حرية التعبير يوماً بعد يوم".

ودعا الحزب المشاركين إلى "المحافظة في مقرراتهم على تناسق خطاباتهم مع إعلاناتهم المبدئية، وألا تطغى مصالح دولهم ومنظمتهم، وألا تتعارض مع المبادئ السامية لحقوق الإنسان، ومع مطامح شعب يستضيفهم على أرضه، في استعادة مسار ديمقراطي أنجزه بفضل ثورة حملت في طياتها آمالاً عريضة لشعوب المنطقة بأسرها في العيش بحرية وكرامة".

دعا الحزب الجمهوري رؤساء الدول والحكومات للإحجام عن الخوض في حقوق الإنسان على أرض بلد تستباح فيه الديمقراطية

ويطرح انعقاد هذه القمة بعد 50 عاماً من تأسيسها أسئلة حول صمود الفضاء الفرنكوفوني، وأسئلة أيضاً حول الانتساب إلى هذه الرابطة، وإن كانت مفيدة لكل الأعضاء، أم هي قسرية فرضها المستعمر، وجعل غالبية أعضائها رهينة اقتصادية وسياسية لديه؟

وعن ذلك، قال مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، الوزير الأسبق مهدي مبروك، لـ"العربي الجديد"، إنه "حين تم إطلاق مصطلح الفرنكوفونية لأول مرة في اللغة الفرنسية، لم يكن ذلك مجرد وصف للناطقين باللغة الفرنسية، بقطع النظر عن أوطانهم وأعراقهم وجيناتهم فحسب، بل كان ذلك يعني أسلوب تفكير ونمط عيش يميز هؤلاء الناطقين باللغة الفرنسية على أنهم جماعة لغوية متجاوزة لكل تلك الحدود، ويوحدهم لسان لا ينطق، بل يفكر ويعيش بشكل موحد".

وأضاف: "كان المصطلح قد ظهر في ثمانينيات القرن التاسع عشر في أوج الحملات الاستعمارية الفرنسية التي شنّتها فرنسا آنذاك على دول القارة الأفريقية وبعض من بلدان آسيا".

وتابع أنه "في مارس 1970، تم إنشاء المنظمة العالمية للفرنكوفونية، أي بعد قرن من ظهور المصطلح تقريباً"، مشيراً إلى أن "جلّ الدول الأفريقية كانت آنذاك قد استقلت سياسياً عن فرنسا، لكنها ظلت مشدودة ضمن حالة تبعية فادحة تجاه مستعمرها القديم، وكانت فرنسا تخشى في المقابل أن تذهب هذه الدول بعيداً في استقلالها السياسي والثقافي".

وذكّر مبروك بأن فترة السبعينيات كانت قد رافقتها رياح يسارية تجاه المعسكر الشرقي، التي هبت على دول أفريقية عديدة، تخلصت من مستعمراتها القديمة، كإسبانيا والبرتغال وغيرهما. وأوضح أن "هذه المناخات التي نشأت فيها الفرنكوفونية كمنظمة تشي بأن الهاجس السياسي لم يكن بعيداً عن نوايا لمّ شمل العائلة الثقافية الفرنسية، واللافت للانتباه هو استعمال لفظ العائلة".

الفرنسية كلغة تتراجع أمام زحف الإنكليزية

وفي ما يتعلق بالوضع اليوم، قال مبروك: "لا شك أن الفرنسية كلغة تتراجع، سواء في بلدها أمام هذا الزحف الهادئ حيناً والشرس أحياناً أخرى للغة الإنكليزية، والعديد من الجامعات الفرنسية غدت تدرّس بالإنكليزية، إما كلياً أو جزئياً (عمومية أو خاصة). كما أن المقالات العلمية التي تكتبها النخب العلمية تكون في الغالب باللغة الإنكليزية، إما لضرورة الانتماء إلى الجماعات العلمية، فيزياء، طب، علم فلك، إعلام، أو لتحسين الترتيب العالمي لهذه الجامعات، ما يؤكد هذه الأزمة الحادة التي تمر بها اللغة الفرنسية. ومع ذلك تصر فرنسا من وراء الستار على إنعاش الفرنكوفونية في جغرافيتها الاستعمارية القديمة، في محاولة لتعويض خسارات فادحة".

وأضاف مبروك أن "هذا التعويض ليس مجرد هوس لغوي ثقافي، وقد حرصت فرنسا عند إنشاء المنظمة العالمية للتجارة على فرض حق الاستثناء الثقافي، بل هو هوس سياسي بدرجة أولى. وللإشارة فثمة انتفاضات تحدث في أكثر من بلد ضد فرنسا، سياسياً وحتى ثقافياً، مثل مالي، وتشاد، وبوركينا فاسو".

في جانب آخر، أشار مبروك إلى أن "ثمة بلداناً أخرى فرنكوفونية لم تكن بالضرورة مستعمرات، ولكن المزاج الثقافي لنخبها ظل فرنسي الهوى، وهي لا تعيش بالضرورة التأثير ذاته، بينما حالة الدول الأفريقية دالة ولها خصوصية، ذلك أن الفرنكوفونية فيها هي كما ذكرنا حبل سرة يربط النخب السياسية وحتى الثقافية بالمركز الأم".

وتابع: "ثمة نخب فرنكوفونية تقوم بدور السفير فوق العادة لشعوبها التي تنطق باسمها بدون تفويض، وهي تقريباً تمارس ضرباً من الاستعلاء الثقافي إلى حد تعتقد أن انتماءها إلى مجتمعاتها العربية مثلاً أو الأفريقية، بالمعنى الأنثروبولوجي، هو شبيه بالعار، لذلك تحرص على إعادة إنتاج الهيمنة بالوكالة". 

واعتبر مبروك أنها "نخب منسلخة، ولكنها أشد بطشاً، وتحظى بالكثير من العطف وتُمَوَّل مشاريعها بكثير من السخاء، ومع كل هذه الرهانات السياسية التي تحف بالفرنكوفونية تظل اللغة الفرنسية جميلة جمال آدابها وفنونها وأنوارها، ولكن ليس إلى حد الانسلاخ والتنكيل بالثقافات الوطنية".