الانسحاب من غزة والمشاريع الأكثر دموية

الانسحاب من غزة والمشاريع الأكثر دموية

28 ابريل 2024
من تظاهرات الطلبة في جامعة كولومبيا في نيويورك (فاتح أكتاس/الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بعد ستة أشهر من القتال، أعلن الجيش الإسرائيلي انسحاب فرقة من خانيونس لكنه أكد استمرار وجوده في غزة، ما يعكس استمرار السياسات الإسرائيلية لتهجير سكان غزة وتوسيع الاستيطان.
- الضغوط الدولية، خصوصًا من الولايات المتحدة، تكشف عن توترات داخل الحكومة الإسرائيلية وانتقادات لنتنياهو، مع محاولات لتحسين صورة الحرب دوليًا دون تغيير جوهر السياسات العدوانية.
- الحراك الشعبي العالمي يعارض الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، مؤكدًا على الكفاح المسلح والدعم الشعبي لإقامة دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية تمتد من النهر إلى البحر.

بعد ستة أشهرٍ داميةٍ من حرب الإبادة الجماعية؛ أعلن جيش العدو الصهيوني، في بيانٍ صدر عنه يوم الأحد الموافق 7 إبريل/نيسان، أن "الفرقة 98 قد أنهت مهمتها في خانيونس، وغادرت قطاع غزّة للراحة والاستعداد لعملياتٍ مستقبليةٍ"، مشيرًا في السياق ذاته إلى أنّ قوّةً كبيرةً لا تزال تعمل في القطاع، وفقًا للحاجة الاستراتيجية". علقت واشنطن من جهتها، على لسان متحدثٍ باسم البيت الأبيض، بأن "إعلان الجيش الاسرائيلي انسحابه من جنوب القطاع هو، على الأرجح، مجرد استراحةٍ لقواته".

تصريحات قوات الاحتلال وتعليق حلفائها في البيت الأبيض تشير، بلا شكٍ، إلى أن العدو ماضٍ في استراتيجيته الرامية إلى تهجير سكان قطاع غزّة، وإحلال المزيد من المستوطنين، وليس القضاء على المقاومة فحسب. عبر عن هذه الاستراتيجية أبرز رموز اليمين المتطرف في حكومة الاحتلال: وزير الأمن إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إلى جانب رئيس هيئة الأركان السابق، بيني غانتس، في أكثر من محطةٍ، ولا سيّما خلال أشهر العدوان الهمجي الحالي.

الرهان على أيّة ضغوطٍ حقيقيةٍ قد يفرضها "المجتمع الدولي" لكبح جماح سياسة الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتوسع الاستيطاني المستمر، فهو محض عبثٍ

لكن، رغم وضوح هذا النهج بالنسبة لقادة العدو، ورغم الانسجام الاستراتيجي بين مختلف أطراف صناع القرار الصهيوني، أثار الانسحاب العسكري حالة خلافٍ جديدةٍ، وموجة انتقاداتٍ وجهت إلى رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إذ قال بن غفير: "إذا قرر رئيس الوزراء إنهاء الحرب من دون شن هجومٍ واسع النطاق في رفح لهزيمة حماس، فلن يكون لديه تفويضٌ لمواصلة الخدمة"، في ما دعا سموتريتش إلى اجتماع المجلس الأمني على الفور. كما وجه رسالةً غاضبةً إلى نتنياهو، اتهمه فيها "بالرضوخ للضغوط الدولية، والتحايل على الحكومة بشأن نقاطٍ رئيسيةٍ، مثل الانسحاب من خانيونس"، وفقًا لما نشره موقع "أوقات إسرائيل" في الثامن من إبريل.

كذبة الخضوع للضغوط الدولية

المقصود بـ"الضغوط الدولية"؛ التي ذكرها المتطرف الغاضب في تصريحاته، محاولة واشنطن اليائسة النأي بنفسها قليلًا عن الشراكة المباشرة في أقذر حرب إبادةٍ شهدها التاريخ الحديث، لأسبابٍ داخليةٍ متشابكةٍ، أكثر من كون المسألة مجرد "يقظة ضميرٍ". إذ لن تتخلى إدارة جو بايدن عن دعمها غير المشروط لدولة الاحتلال، لكنها في أمس الحاجة اليوم إلى التقاط أنفاسها، وإقناع حكومة نتنياهو باتخاذ إجراءاتٍ تكتيكةٍ "أكثر حكمةً".

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 26 مارس/آذار تحليلًا بعنوان: "الضغوط السياسية الداخلية توسع الانقسام بين بايدن ونتنياهو"، أشارت فيه إلى ما وصفته "بالتصريحات القاسية" التي أدلى بها نتنياهو وشركاؤه المتطرفون في انتقاداتهم لإدارة بايدن. كما أوردت الصحيفة أن "بن غفير اتّهم بايدن بدعمٍ ضمنيٍ لأعداء إسرائيل، مثل يحيى السنوار، زعيم حماس في غزّة، ورشيدة طليب، عضوة الكونجرس الديمقراطية من أصلٍ فلسطينيٍ، والتي تمثّل إحدى مناطق ميشيغان". وأضافت أن "بن غفير قال في مقابلةٍ أجريت معه: "في الوقت الحالي، يفضل بايدن خط رشيدة طليب والسنوار على خط بنيامين نتنياهو وبن غفير.. كنت أتوقع ألّا يقف رئيس الولايات المتّحدة في صفهم، بل في صفنا".

هذه التصريحات الصادرة عن أركان اليمين الصهيوني المتطرف ضد أهمّ حلفائهم الاستراتيجيين، تكشف إلى أي مدى يمكن للعدو المضي في سياساته الإجرامية، غير مكترثٍ، على الإطلاق، بنصائح حلفائه وتوجيهاتهم، المغلوبين على أمرهم أمام العنجهية الصهيونية. في المقابل، لا تزال سلطة رام الله، وأنظمة التطبيع العربية تراهن على حلّ القضية الفلسطينية، "حلًا عادلًا وشاملًا"، برعاية "اليانكيز" وحلفائهم الدوليين.

أثبت الحراك الشعبي الأممي، الذي شهده العالم خلال حرب الإبادة الجماعية، أن الرهان ممكنٌ على الشعوب وحدها

أما في ما يتعلق بالرهان على ما يبدو أنّه "خلافاتٌ إسرائيليةٌ داخليةٌ"، يعتقد بعضهم أنها قد تفضي إلى "تحسنٍ" طفيفٍ في سياسات العدو، عبر إقصاء أكثر اللاعبين تطرفًا، فقد أكدت "نيويورك تايمز" في التحليل ذاته أنّ "البقاء السياسي لنتنياهو يعتمد على إبقاء بن غفير وسموتريتش في ائتلافه، إذ إنّ تركهما للحكومة سيؤدي إلى إجراء انتخاباتٍ إسرائيليةٍ مبكرةٍ، من المرجح أن يخسرها نتنياهو أمام منافسه الوسطي بيني غانتس".

كما خلصت الصحيفة إلى أنّ "الحكومة الأميركية ستبقى ملتزمةً بدعم إسرائيل، وليس هناك ما يشير إلى أنّها قد تقلل من إمدادات الأسلحة الموجهة إليها.."، مؤكدة في السياق ذاته على "رغبة الولايات المتّحدة وحلفائها في أن تضع إسرائيل أولًا خطةً مفصلةً لتجنيب المدنيين". يعني هذا باختصارٍ، أن "الخلاف" بين البيت الأبيض وجلاوزة اليمين الصهيوني لا يتجاوز كونه نصائح إجرائيةٍ لخدمة مشروع الاحتلال، الذي بات يبدو جاهلًا بما يحقق مصالحه على نحوٍ أفضل، وأقلّ ضجيجًا.

بين اللعبة السياسية والمقاومة الشعبية

لذا، ليس من المتوقع أن يشهد المستقبل القريب تراجعًا جوهريًا في سياسات دولة الاحتلال، فنتنياهو غير قادرٍ على التخلي عن شركائه الأكثر تطرفًا في حكومته العنصرية. أما الرهان على أيّة ضغوطٍ حقيقيةٍ قد يفرضها "المجتمع الدولي" لكبح جماح سياسة الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتوسع الاستيطاني المستمر، فهو محض عبثٍ.

هذا ما يخص التراشقات داخل أروقة الحكومة الصهيونية، أو بينها وبين حلفائها في واشنطن، لكن المثير للاستغراب هو استمرار رهانات سلطة رام الله، التي تتمسك بها استنادًا إلى تسوية "حلّ الدولتين" برعايةٍ دوليةٍ، فمنذ بدء الحرب على غزّة، وأثنائها، حتّى اليوم، لا تزال هذه السلطة "متفائلةً" في حماية "المجتمع الدولي" لـ" الشعب الفلسطيني، ومساعدة فريق أوسلو في استعادة السيطرة على قطاع غزّة، بعد تصفية المقاومة!

"الخلاف" بين البيت الأبيض وجلاوزة اليمين الصهيوني لا يتجاوز كونه نصائح إجرائيةٍ لخدمة مشروع الاحتلال، الذي بات يبدو جاهلًا بما يحقق مصالحه

منذ صدور قرار التقسيم، ومن بعده النكبة التي أفضت إلى إنشاء دولة الاحتلال، ومن ثمّ اتّفاقيات أوسلو؛ التي تمخضت بعد عقودٍ عما يسمى بصفقة القرن، يثبت المشروع الصهيوني عند كلّ محطةٍ طبيعته الاستيطانية التوسعية، التي لا تعرف حدًّا. أما حلفاؤه من جلاوزة "المجتمع الدولي" فلم يترددوا ولن يترددوا عن تقديم الدعم غير المشروط لهذه الأداة الإمبريالية في المنطقة. الكفاح المسلّح وحده المستند إلى الحاضنة الشعبية الفلسطينية، بعمقيها العربي والأممي، هو طريق الخلاص من هذا الاحتلال، الذي لم يعد يكتفي بمصادرة حقّ الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، وفقًا لقرارات "الشرعية الدولية"، بل بات يصادر علانيةً حقّه في الوجود المحض، عبر حروب الإبادة جماعية، ودعوات التهجير. أي باختصارٍ: عبر النكبة المستمرة.

أثبت الحراك الشعبي الأممي، الذي شهده العالم خلال حرب الإبادة الجماعية، أن الرهان ممكنٌ على الشعوب وحدها، وليس على دوائر صنع القرار في الغرب، الذي أنشأ الكيان الصهيوني أساسًا خدمةً لمصالح كارتيلات الموت. في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى مقالٍ نشرته صحيفة "الغارديان" في 19 مارس، للكاتب ريتشارد سيمور بعنوان: "الحركة المؤيدة لفلسطين فضحت استهزاء النخب السياسية.. أين ستذهب تلك الطاقة بعد ذلك؟".

قال الكاتب في مقاله "أخرجت الحرب على غزّة مئات الآلاف من المتظاهرين، ويمكن لهذه التعبئة أن تعيد تشكيل ديمقراطياتنا الجوفاء". وأضاف: "هذه الاحتجاجات قادرةٌ على حشد الجماهير بسرعةٍ، والانفتاح على مجموعةٍ متنوعةٍ من التكتيكات، والحفاظ على التركيز على مطلبٍ بسيطٍ وواضحٍ أخلاقيًا... في المملكة المتّحدة الاحتجاجات ناجحةٌ في كثيرٍ من النواحي، على الرغم من الجهود المبذولة لشيطنتها على اعتبارها مسيرات كراهيةٍ".

في النهاية، لا بدّ من التنويه إلى أنّ حالة التضامن الشعبي الأممي، التي نجحت المقاومة الفلسطينية في تأجيجها، ليست البديل عن الرهانات العبثية على الحكومات الغربية لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني فحسب، بل إنّها أيضًا أداةٌ حاسمةٌ لإعادة طرح الحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية: الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية، من النهر إلى البحر.