"نداء تونس"... مسار وخيارات

"نداء تونس"... مسار وخيارات

16 فبراير 2015

متظاهر ضد عودة رموز النظام القديم (16مارس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

ربما تجد نشأة حزب نداء تونس جذورها في المبادرة التي أطلقها الباجي قايد السبسي في 26 يناير/كانون ثاني 2012، حيث لم ينتظر السبسي أكثر من شهر، بعد خروجه من رئاسته الحكومة، لإطلاق مبادرته التي انضمت إليها وجوه سياسية دستورية ويسارية، ولم يكن الجامع بين هذه القوى المختلفة سوى صراعها السياسي مع الترويكا الحاكمة حينها، ورغبتها الجامحة في الوصول إلى السلطة. وتم تتويج هذا الحراك النخبوي الملتف حول الشخصية المحورية للباجي قايد السبسي، بالإعلان عن تشكيل حزب جديد، يحمل اسم "حركة نداء تونس". وفي ندوة صحافية في 6 يونيو/حزيران 2012، أعلن الحزب الجديد رفضه إقصاء التجمعيين (أعضاء الحزب الحاكم زمن بن علي)، مؤكداً في بيانه التأسيسي أن الحركة تسعى إلى "أن تكون رقماً أساسياً مركزياً، تعمل على تجميع أوسع القوى على أرضية واضحة، من أجل استتباب الأمن، ومقاومة كل مظاهر العنف". واستعرض البيان القيم والأهداف التي سيعمل على تحقيقها هذا الحزب، ومنها خصوصاً "مناهضة جميع أشكال الإقصاء الجماعي، مهما كانت تبريراته، وإرساء التوافق الوطني الواسع، وإنجاز برنامج إنقاذ اقتصادي، وتفعيل

المشاركة المواطنية والديمقراطية الواسعة فيه، فضلاً عن معالجة مطالب الشعب، والشباب، في الشغل والعيش الكريم ودفع التنمية الجهوية".

وعلى الرغم مما بدا حينها من فتور في تعامل القوى السياسية المحسوبة على الثورة مع هذا الوافد الجديد للمشهد الحزبي إلا أنه حصل على تأشيرة العمل القانوني في 07/07/2012 وكشفت هيئته التأسيسية عن تركيبة هجينة من المؤسسين، ضمت عناصر دستورية، وأخرى يسارية منسلخة من أحزابها، أو مستقلة، ولم يكن للحزب برنامج تفصيلي واضح، يؤهله للحكم، بقدر تقديمه جملة نقاط عامة أقرب إلى منطق الشعارات العامة، من دون تحديد هوية الحزب أو طبيعته، على الرغم من أنه، في وثائقه الأساسية، يقدم نفسه باعتباره" امتداداً للحركة الوطنية التحررية والاجتماعية"، ويدعو إلى "الانخراط في الإرث الإصلاحي التونسي بمختلف منجزاته، من تحرير البلاد إلى تحرير المجتمع، مروراً بوضع دستور ومؤسسات حديثة، فإنشاء تعليم عصري موحّد، وصولاً إلى تحقيق العدالة بين الأفراد و المساواة بين المرأة والرجل"(راجع الوثائق التأسيسية للحزب على موقعه الإلكتروني).

وبعيداً عن منطق الشعارات الجذابة، مثّل حزب نداء تونس، حينها، وفي نظر قوى سياسية كثيرة، التعبير الأبرز عن الثورة المضادة، وبقايا نظام المخلوع، وهو ما عبرت عنه مواقف أحزابٍ كثيرة، منها الجبهة الشعبية التي اعتبرته "امتداداً للنظام السابق، ويشكل خدمة لأجندات غير وطنية"، غير أن الأحداث اللاحقة ستثبت قدرة فائقة لحزب نداء تونس في الاستفادة من ارتباك الأداء السياسي لحكومة الترويكا، واستطاع، من خلال أذرعه الإعلامية، وتحالفاته السياسية، أن يؤثر على الرأي العام، ويشيع شعوراً عاماً بفشل أداء الحكم الجديد، وصولاً إلى إثارة نزعة من الحنين لدى قطاع من الشعب، إلى فترة ما قبل الثورة. فقد تمكن نداء تونس من إيجاد تحالفات واسعة، سواء في جبهة الإنقاذ الوطني، أو الاتحاد من أجل تونس، وصولاً إلى اعتصام الرحيل (يوليو/تموز 2013 )، حيث ركّز، في خطابه السياسي، على ما سماها خطورة بقاء الترويكا في الحكم، وتحديداً حركة النهضة على "النمط المجتمعي" التونسي، متوجاً تحركاته بدعوات متكررة لحل المجلس الوطني التأسيسي، وتركيزه على مفاهيم هيبة الدولة، ومحاربة ما يسميه الإرهاب، وقد أعطى نفساً جديداً للقوى المتضررة من اندلاع الثورة التونسية، وصعود التيار الإسلامي، كما لم يخف تحالفه مع القوى المضادة للربيع العربي، ما تجسد في تأييده الانقلاب المصري، ونقده المتواصل كل الحراك الشعبي الذي يطالب بالحريات، ويحاول إطاحة الاستبداد في المنطقة العربية.

اجتمعت جملة عوامل موضوعية، سواء المتعلقة بأداء حكومات ما بعد انتخابات 23/11/ 2011، أو حالات الاغتيال السياسي والعمليات الإرهابية، بالإضافة إلى تعقد ظروف المرحلة الانتقالية، مضافاً إليها قدرة حزب حركة نداء تونس على تجييش قواعد حزب التجمع الدستوري التي كانت منضوية تحت لواء الحزب الحاكم المحل، ليتمكن من تحقيق فوز انتخابي، مع نيله نسبة 38.24% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، وفوز مرشحه للانتخابات الرئاسية، الباجي قايد السبسي.

وعلى الرغم من أن المنطق السياسي يقول، إن الأحزاب الفائزة تحافظ على تماسكها، وتزداد قدرة على التعبئة والاستقطاب، غير أن فوز "نداء تونس" في الانتخابات، وتوليه مقاليد السلطة، قد شكل، بصورة ما، أشبه بالهدية المسمومة، حيث عرف الحزب تجاذبات داخلية حادة بين القوى المكونة له، وهو ما ظهر في جملة من التجاذبات المعلنة، بداية من الصراع على منصب رئاسة الحكومة الذي كان يطمع فيه الأمين العام للحزب، الطيب البكوش، ومروراً بالمواقف الغاضبة لبعض نواب "نداء تونس" في البرلمان، ممن رفضوا منح الثقة للحكومة التي رشحها حزبهم. وأخيراً، شهد الحزب بيانات صادرة عن مكتبه التنفيذي، عبرت، بوضوح، عن جملة مواقف، لعل أبرزها إعلان "الاستياء من الطريقة والأسلوب الذي تم على أساسه التفاوض مع رئيس الحكومة، المكلف في خصوص استحقاقات الحزب، وتشريك الأطراف السياسية الأخرى، وما طرأ خلال المفاوضات من تغاضٍ عن مصالح الحزب"، و"المطالبة بالإسراع لتصحيح مسار الحزب، والحفاظ على توجهه الديمقراطي"، مع "الدعوة إلى تفعيل هياكل الحزب، ورأب التصدعات والانشقاقات، في بعضها، والتصدي لتدخلات بعض قياديي الحزب السلبية" (بيان المكتب التنفيذي الصادر في 09 فبراير/شباط 2015).
وتعود الخلافات داخل حزب نداء تونس إلى عوامل يمكن اختصارها:

أولاً، يعاني الحزب من عدم تجانس مكوناته الذين جمعتهم مرحلة إطاحة حكم الترويكا، وفرقهم الصراع على ريع المرحلة، بعد الانتصار انتخابياً، وهو أمر عبر عنه جلياً أحد قيادات الحزب، حين قال" الدستوريون داخل نداء تونس يعتقدون أنهم عملوا جاهدين من أجل نجاح الحزب في الانتخابات، لكنهم وجدوا أنفسهم خارج الحكومة" (فوزي اللومي لإذاعة موزاييك في 10/02/2015).

ثانياً، بدا واضحاً استئثار الشق اليساري في حزب نداء تونس بالمواقع القيادية داخل الحزب، وهيمنته على أهم المناصب الوزارية التي حصل عليها النداء في حكومة حبيب الصيد، وهو ما أثار حفيظة الشق الدستوري الذي يمثل الثقل الجماهيري الحقيقي، بينما لا يشكل عناصر اليسار داخل الحزب سوى أقلية نخبوية، تتركز في القيادة التي لم يتم تصعيدها انتخابياً من الهياكل، بالنظر إلى عدم انعقاد المؤتمر الأول للحزب، إلى الآن.

ثالثاً، يختلف الشقان الدستوري واليساري داخل الحزب في التقديرات السياسية، حيث بدا اليسار أكثر ميلاً إلى أطروحات الجبهة الشعبية، خصوصاً في ما يتعلق برغبتها في إقصاء حركة النهضة من أي حكومة توافقية، بعد انتخابات 2014، وهو موقف لا يتطابق مع ما يميل إليه قطاع مهم من الجناح الدستوري. ويفسر هذا الخلاف حالة التضارب في التصريحات والمواقف بين قيادات حزبية ندائية، في ما يتعلق بمشاركة حركة النهضة في حكومة الحبيب الصيد، قبل تشكيلها.

رابعاً، لا يتوفر حزب نداء تونس على برامج سياسية واضحة، بل كان، منذ نشأته، تعبيراً عن آلة انتخابية ضخمة، تمكنت من إطاحة حكم الترويكا، لكنها فشلت في تقديم برامج واضحة، أو محددة، لإدارة الدولة، أو حتى لمستقبل الحزب نفسه.

خامساً، يرتهن مستقبل حزب نداء تونس بوجود الباجي قايد السبسي، باعتباره شخصية تجميعية، مثلت محور عملية الاستقطاب والإقناع في الخطاب السياسي للحزب، ما يعني أن غياب هذه الشخصية عن موقعها القيادي، خصوصاً بالنظر إلى سنه (89 عاماً)، سيفضي إلى تفكك الحزب، وربما تشظيه إلى أكثر من فصيل، وقد يكون المؤتمر القادم للحزب فرصة للشق الدستوري، لفرض قياداته في هيكل الحزب، وتحجيم نفوذ الجناح اليساري، المهيمن حالياً على بنية النداء.

استفاد حزب نداء تونس من ارتدادات الثورة، لتحقيق صعود سياسي وانتخابي سريع، وتم توظيف إمكانات مالية ولوجستية ضخمة، من أجل جعل الحزب يتصدر المشهد السياسي، غير أن الحفاظ على هذا التقدم بات، اليوم، رهين توافق فرقاء النداء، ممن يتنازعون مواقع النفوذ والتأثير، بالإضافة إلى القدرة على التحول من حالة التشكيل السياسي، ذي الأهداف الانتخابية، إلى حزب حقيقي، ذي برامج واضحة، ومؤسسات قادرة على البقاء خارج جلباب الزعامات، وإذا لم تتحقق هذه الشروط الأساسية، فقد نشهد، في المرحلة المقبلة، انهيار حزب نداء تونس، أو على الأقل، انحسار وجوده السياسي، وهذه ظاهرة عرفها المشهد الحزبي في تونس، مع أكثر من حزب، منذ دخول البلاد تجربة الانتقال الديمقراطي بعد الثورة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.