21 يوليو 2024
عن مؤتمر برلين بشأن ليبيا
أمام العدّ التنازلي لانطلاق مؤتمر برلين بشأن ليبيا الذي تسعى ألمانيا على قدم وساق لاستضافته على أراضيها، تواترت في الساعات الأخيرة أسئلة الحيرة والاستغراب في الأوساط الرسمية التونسية والمغاربية عن أسباب تغييب الجارتين، تونس والجزائر، عنه، علاوة على تغييب الأطراف الليبية المتصارعة. ما جعل هذه الأوساط تخشى أن ينتهي هذا المؤتمر إلى فرض وصاية على ليبيا، بسبب تضارب مصالح القوى الكبرى المتدخلة في النزاع القائم على أرضها. وقد سبق أن انتقدت أطرافٌ مهتمة بالشأن الليبي بيان قمة الدول السبع في أغسطس/ آب الماضي، والذي تضمن توجهاً بأن مؤتمر برلين سيكون خاصاً بالأطراف الدولية الفاعلة في ليبيا، من دون دعوة الأطراف الليبية المتنازعة ودولتي الجوار تونس والجزائر، وكذلك تركيا وقطر. كما تساءلت عن جدية هذه الخطوة الدولية وجدواها وسيناريوهات قبولها لدى الداخل الليبي، في ظل طلب رئيس حكومة الوفاق، فائز السراج، ورئيس مجلس الدولة، خالد المشري، بضرورة حضور كل الدول الفاعلة في الملف الليبي، وعدم إقصاء أي طرف ليبي، فضلاً عن تونس والجزائر وتركيا وقطر.
وكان مبعوث الأمم المتحدة لدى ليبيا، غسّان سلامة، قد أرجع سبب تغييب الليبيين ودول الجوار إلى تركيز مؤتمر برلين على ترميم مواقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وما يشوب حالياً مواقفها من انقسام حاد، عرقل، إلى الآن، إيجاد حلٍّ سياسي للأزمة الليبية، بسبب تضارب مصالح هذه الدول، بما في ذلك ألمانيا التي دعت إلى المؤتمر، إذ رشحت معطياتٌ مؤكّدة عن وجود مصالح ألمانية في ليبيا، تتعلق بإعادة الإعمار، وخصوصاً في مجال الشبكة الكهربائية، وإنجاز مشروع القطار الليبي.
وفيما يتعلّق بغياب تونس، والذي شكّل نقطة استفهام كبيرة، تقول أوساط دبلوماسية عليمة في
تونس إن الأخيرة، ومنذ علمها باعتزام ألمانيا عقد مؤتمر حول ليبيا وعزم المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، على أن يكون هذا المؤتمر استثنائياً وناجحاً، بادرت تونس بالاحتجاج والرفض لعدم دعوتها إليه، وثمّنت هذه الأوساط الجهود التي قام بها وزير الخارجية التونسي المقال خميس الجهيناوي، علاوة على سفير تونس في برلين من أجل التوصل إلى توضيحات شافية من الجانب الألماني. وهي جهود كانت من العوامل الأساسية لزيارة وزير خارجية ألمانيا، هايكو ماس، أخيراً تونس، وقدّم تفسيراً لهذا الموقف، لم يقنع الجانب التونسي، ومفاده بأن المؤتمر لا يتعلق بالتسوية في ليبيا التي تستدعي حضور دول الجوار، وإنما يهم الشق الأوروبي فقط، حيث أصبحت الأزمة الليبية ورقة تستغلّها أطراف إقليمية ودولية، للضغط على أوروبا على حد قوله. ولدى استقباله من رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، شرح الوزير الألماني خلفيات موقف بلاده، مبيناً أن المؤتمر سيبحث، خصوصاً عواقب استمرار الأزمة الليبية، والصراع الدائر في ليبيا وتداعياته على أمن أوروبا، وليس بحث ملف الحل السياسي للأزمة، مثيراً ملف التسعمائة ألف مهاجر، العالقين في الأراضي الليبية، في انتظار فرص الإبحار الى أوروبا، وما يمثّلونه من تهديد للأمن الأوروبي. وقد عبّر عن رغبة بلاده في أن تكون تونس منصةً لاحتضان هؤلاء المهاجرين، بمساعدة المنظمات الدولية المعنية وأوروبا، موقف لا يزال محل رفض من الجانب التونسي.
لم تقنع هذه المعطيات التي قدمها الوزير الألماني الجانب التونسي الذي يحشد حالياً جهوداً دبلوماسية، من أجل نزول تونس بكل إمكاناتها لمتابعة النتائج التي سينتهي إليها المؤتمر، حرصاً على أن تظل تونس عنصراً فاعلاً في أي تسوية للأزمة الليبية، وخصوصاً فيما بعد الأزمة، وبداية مرحلة الإعمار، وما يمثله ذلك من فرص كبيرة لإنعاش الاقتصاد التونسي، ودفع التشغيل، وإحياء الحركية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في الجنوب التونسي.
يرى متابعون للشأن الليبي في الموقف الألماني تضارباً واضحاً مع معالم السياسة الخارجية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، ومضمونها استمرار تونس في سعيها إلى إحياء المشروع المغاربي الذي يمر حتماً عبر تسوية الأزمة في ليبيا، وإعطاء دور بارز لتونس والجزائر في هذا المجال، بالبحث عن طرق ووسائل أخرى، للعب هذا الدور في أعقاب مبادرة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في هذا المجال التي طرحها في عام 2017، والتي لم تعط أي نتيجة، وهي ما سمي "الحياد السلبي" الذي توخته تونس طوال الأزمة. ذلك أن الرئيس الراحل كان يعتبر الأزمة الليبية شأناً داخلياً، وعلى الأطراف المتصارعة أن تتفق فيما بينها سداً لذرائع التدخل الأجنبي، وتدويل الأزمة. ويضيف هؤلاء المتابعون أن تونس ترأس حالياً القمة العربية ومجلس جامعة الدول العربية، ولا يجوز بهاتين الصفتين تغييبها، خصوصاً وأن الجامعة والاتحاد الأفريقي سيكونان حاضرين في المؤتمر.
وعن تغييب الجزائر التي لا يمكن إنكار دورها الكبير في الإسهام في حل الأزمة الليبية، أسهمت
الأوضاع الداخلية الصعبة للجزائر وتداعياتها في تقليل اهتمام الجزائر بالشأن الليبي. يضاف إلى ذلك أن مؤتمر برلين، وكما يعتقد كثيرون، ينطلق من منطق فرض تصوّر مسبق للحل الليبي، يصل إلى درجة القصور في فهم واقع الأزمة وطبيعتها وتفاصيلها، ومن ذلك التركيبة القبلية للمجتمع الليبي ودورها، وسيناريوهات المشهد المقبل، وموقع حفتر في هذا المشهد ... الذي يواصل، منذ إبريل/ نيسان الماضي، محاصرة العاصمة الليبية وقصف أحياء منها من دون أن يستثني المدنيين والمنشآت التربوية والصحية.
ويرى الباحث السياسي الليبي، كامل المرعاش، إن تغييب تونس والجزائر عن المؤتمر يأتي على خلفية دورهما غير المؤثر في الدعم العسكري والمادي والسياسي لطرفي النزاع، موضحاً أن دولاً مثل مصر والإمارات تقدّم دعماً مباشراً عسكرياً ولوجستياً مؤثراً لجيش خليفة حفتر، بينما تكتفي تونس والجزائر بالحياد في أغلب الأحيان، وتقتصر أدوارهما على دعم سياسي وإعلامي بسيط، مضيفاً أن تونس، على الرغم من تغييب الطرف الألماني لها، إلا أنها ستظل عنصراً فاعلاً في أي تسويةٍ يمكن الوصول إليها، وهي ستكون أكبر مستفيد أمنياً واقتصادياً من حل الأزمة الليبية.
وفيما يتعلق بتغييب الليبيين أنفسهم، أصحاب القضية المعنيين بمجريات التسوية، يجمع المحللون في تونس على أن المؤتمر هو مخصص للدول الكبرى التي تتصارع على النفوذ في ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات، تصفية لحساباتها القديمة، ورسماً لخريطة طريق جديدة، من أجل الوصول إلى صيغة ترضي الجميع لتقاسم الكعكة. وهذا ما أعلنه صراحة الموفد الأممي، غسان سلامة، في تصريحاته أخيراً التي أوضح فيها "أن المؤتمر سيركز في الأساس على ترميم موقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من الأزمة، وهو الذي ظل عاجزاً عن أي دور يقوم به أمام تضارب المصالح والمطامع بين هذه الدول الكبرى"، دول تقف وراء حفتر وأخرى تدعم حكومة الوفاق في طرابلس.
وبخصوص ألمانيا، وعلى الرغم مما تظهره من "طهورية" وحياد، فإن معطيات كثيرة تؤكد
سعيها، من خلال عقد المؤتمر، إلى أن يكون لها نصيب من مغانم المسألة الليبية، بعيد تسوية الأزمة. علاوة على ما ذكر سلفاً من السعي إلى الحصول على صفقتي الكهرباء والنقل الحديدي. وهي تعمل على أن يكون المؤتمر فرصةً ذهبيةً لنجاحها، فيما فشلت فيه فرنسا وإيطاليا، وبالتالي تحقيق عودة قوية إلى الساحة الدولية والبيت الأوروبي، مستفيدة في هذا الشأن من إرثها غير الاستعماري لشمال أفريقيا وعدم تدخلها في الأزمة الليبية، منذ إطاحة معمر القذافي.
وعلى عكس الموقف الألماني من تغييب تونس والجزائر، فإن وزير الخارجية الإيطالي، لويدجي دي مايو، يرى أن غياب جارتي ليبيا تونس والجزائر المؤثرتين هو فرصة ضائعة للمؤتمر، مضيفاً، في جلسة سماع في مجلس الشيوخ الإيطالي، أنه لا يمكن فهم الملف الليبي من دون إشراك التونسيين والجزائريين العارفين بخبايا الأوضاع في ليبيا وذوي الدراية الكافية فيما يتعلق بالإرهاب، مستدلاً، في هذا الإطار، بأن غالبية المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى سواحل إيطاليا ينطلقون من السواحل التونسية.
ومهما يكن من أمر، يطرح تغييب الليبيين وتونس والجزائر وعدم دعوة تركيا وقطر أيضاً أكثر من سؤال بشأن مصداقية المبادرة الألمانية، إذ يجمع متابعون على أن تغييب هذه الدول يؤشر مبدئياً إلى انحياز واضح لدول على حساب دول أخرى، ما يضع نجاح الحل المقترح للأزمة الليبية موضع شك. ولا يستبعد، في هذا المجال، أن تكون الدول العظمى تبحث، من خلال هذا المؤتمر، عن صيغة لإنقاذ حفتر من الورطة التي وقع فيها بعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بقواته، وسعيه الأهوج إلى القفز على الواقع. والسؤال الأهم: هل نرى حفتر يستغلّ أخطاء مؤتمري باريس وباليرمو اللذين كشفت تطورات الأحداث على الميدان أنهما لم يكونا سوى مسرحية كاذبة قد تمثل المآل ذاته لمؤتمر برلين؟
وفيما يتعلّق بغياب تونس، والذي شكّل نقطة استفهام كبيرة، تقول أوساط دبلوماسية عليمة في
لم تقنع هذه المعطيات التي قدمها الوزير الألماني الجانب التونسي الذي يحشد حالياً جهوداً دبلوماسية، من أجل نزول تونس بكل إمكاناتها لمتابعة النتائج التي سينتهي إليها المؤتمر، حرصاً على أن تظل تونس عنصراً فاعلاً في أي تسوية للأزمة الليبية، وخصوصاً فيما بعد الأزمة، وبداية مرحلة الإعمار، وما يمثله ذلك من فرص كبيرة لإنعاش الاقتصاد التونسي، ودفع التشغيل، وإحياء الحركية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في الجنوب التونسي.
يرى متابعون للشأن الليبي في الموقف الألماني تضارباً واضحاً مع معالم السياسة الخارجية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، ومضمونها استمرار تونس في سعيها إلى إحياء المشروع المغاربي الذي يمر حتماً عبر تسوية الأزمة في ليبيا، وإعطاء دور بارز لتونس والجزائر في هذا المجال، بالبحث عن طرق ووسائل أخرى، للعب هذا الدور في أعقاب مبادرة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في هذا المجال التي طرحها في عام 2017، والتي لم تعط أي نتيجة، وهي ما سمي "الحياد السلبي" الذي توخته تونس طوال الأزمة. ذلك أن الرئيس الراحل كان يعتبر الأزمة الليبية شأناً داخلياً، وعلى الأطراف المتصارعة أن تتفق فيما بينها سداً لذرائع التدخل الأجنبي، وتدويل الأزمة. ويضيف هؤلاء المتابعون أن تونس ترأس حالياً القمة العربية ومجلس جامعة الدول العربية، ولا يجوز بهاتين الصفتين تغييبها، خصوصاً وأن الجامعة والاتحاد الأفريقي سيكونان حاضرين في المؤتمر.
وعن تغييب الجزائر التي لا يمكن إنكار دورها الكبير في الإسهام في حل الأزمة الليبية، أسهمت
ويرى الباحث السياسي الليبي، كامل المرعاش، إن تغييب تونس والجزائر عن المؤتمر يأتي على خلفية دورهما غير المؤثر في الدعم العسكري والمادي والسياسي لطرفي النزاع، موضحاً أن دولاً مثل مصر والإمارات تقدّم دعماً مباشراً عسكرياً ولوجستياً مؤثراً لجيش خليفة حفتر، بينما تكتفي تونس والجزائر بالحياد في أغلب الأحيان، وتقتصر أدوارهما على دعم سياسي وإعلامي بسيط، مضيفاً أن تونس، على الرغم من تغييب الطرف الألماني لها، إلا أنها ستظل عنصراً فاعلاً في أي تسويةٍ يمكن الوصول إليها، وهي ستكون أكبر مستفيد أمنياً واقتصادياً من حل الأزمة الليبية.
وفيما يتعلق بتغييب الليبيين أنفسهم، أصحاب القضية المعنيين بمجريات التسوية، يجمع المحللون في تونس على أن المؤتمر هو مخصص للدول الكبرى التي تتصارع على النفوذ في ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات، تصفية لحساباتها القديمة، ورسماً لخريطة طريق جديدة، من أجل الوصول إلى صيغة ترضي الجميع لتقاسم الكعكة. وهذا ما أعلنه صراحة الموفد الأممي، غسان سلامة، في تصريحاته أخيراً التي أوضح فيها "أن المؤتمر سيركز في الأساس على ترميم موقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من الأزمة، وهو الذي ظل عاجزاً عن أي دور يقوم به أمام تضارب المصالح والمطامع بين هذه الدول الكبرى"، دول تقف وراء حفتر وأخرى تدعم حكومة الوفاق في طرابلس.
وبخصوص ألمانيا، وعلى الرغم مما تظهره من "طهورية" وحياد، فإن معطيات كثيرة تؤكد
وعلى عكس الموقف الألماني من تغييب تونس والجزائر، فإن وزير الخارجية الإيطالي، لويدجي دي مايو، يرى أن غياب جارتي ليبيا تونس والجزائر المؤثرتين هو فرصة ضائعة للمؤتمر، مضيفاً، في جلسة سماع في مجلس الشيوخ الإيطالي، أنه لا يمكن فهم الملف الليبي من دون إشراك التونسيين والجزائريين العارفين بخبايا الأوضاع في ليبيا وذوي الدراية الكافية فيما يتعلق بالإرهاب، مستدلاً، في هذا الإطار، بأن غالبية المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى سواحل إيطاليا ينطلقون من السواحل التونسية.
ومهما يكن من أمر، يطرح تغييب الليبيين وتونس والجزائر وعدم دعوة تركيا وقطر أيضاً أكثر من سؤال بشأن مصداقية المبادرة الألمانية، إذ يجمع متابعون على أن تغييب هذه الدول يؤشر مبدئياً إلى انحياز واضح لدول على حساب دول أخرى، ما يضع نجاح الحل المقترح للأزمة الليبية موضع شك. ولا يستبعد، في هذا المجال، أن تكون الدول العظمى تبحث، من خلال هذا المؤتمر، عن صيغة لإنقاذ حفتر من الورطة التي وقع فيها بعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بقواته، وسعيه الأهوج إلى القفز على الواقع. والسؤال الأهم: هل نرى حفتر يستغلّ أخطاء مؤتمري باريس وباليرمو اللذين كشفت تطورات الأحداث على الميدان أنهما لم يكونا سوى مسرحية كاذبة قد تمثل المآل ذاته لمؤتمر برلين؟
دلالات
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023