حريريّ في الرياض.. سبعٌ في بيروت

حريريّ في الرياض.. سبعٌ في بيروت

25 نوفمبر 2018
+ الخط -
تتردّد في ذهني مقولة العرب: "لكل زمان دولة ورجال"، غير أني لا أستسيغ المقولة مقرونة بـ"الدولة"؛ فأنا على يقين أن الدولة اللبنانية، على صغرها، تتوفر على كثيرين من "الرجال الرجال" الذين تتمنى دول عربية أخرى لو لديها نظائر لهم.
تمنيتُ لو كان سعد الحريري فردًا غير مقرون بدولة. عندها ما كان استوقفني، وهو يجلس بكل هذه الضآلة، مثل ضحية مولعة بجلادها، إلى جوار محمد بن سلمان، على المنصة الرئيسية لمؤتمر الاستثمار السعودي، في الرياض أخيرًا، ولما حرّك في مخزون امتعاضي ذرة واحدة، وهو يرد على نكتة بن سلمان بشأن اختطافه "للمرّة الثانية"، بنكتة لا تقل سماجة: "بكامل حريتي"، وتساءلت لحظتها حانقًا: أي نوعٍ من الرجال هو سعد الحريري؟
رئيس وزراء الغفلة، ربما كان أصدق مثل ينسحب على الحريري، فأنا على قناعةٍ بأن المنصب الذي وجد نفسه يتقلّده بغتةً منذ سنوات لم يكن إلا حصيلة مفارقاتٍ لا حيلة له فيها، ولا أعتقد أنه قد هيئ يومًا لشغل أي منصب سياسيّ في حياته، بل وجد من يسحبه من يده، عقب اغتيال والده، ليجلسه على كرسيّ لا يعرف عن شروطه وحيّزه، وما يرتبط فيه، شيئًا.
ثمة من جلبه ليوليه منصبًا خطرًا في ساحةٍ تعصف بها التجاذبات السياسية والطائفية، والتي كانت مسرحًا لأبشع الحروب الأهلية التي شهدها القرن المنصرم. وثمة من هيّأ له أنه سيتحدّث من الآن فصاعدًا باسم "الطائفة السنية" التي أراهن أيضًا أنه لا يعرف عن ملابساتها الكثير، فلو كان كذلك فعلًا، لما جازف، قبل أيام، بذلك التصريح الخطر عن ضرورة الحفاظ على "حقوق الطائفة السنية" في لبنان، لأنه إنما يقلّص منصبه من رئيس وزراء دولة إلى رئيس وزراء طائفة من جهة، ولأنه ينفخ في رماد فتنٍ طائفيّةٍ دفع لبنان في أتونها وقودًا هائلًا من لحم أبنائه، فكيف يسمح قائد سياسيّ لنفسه أن يكون رأس حربةٍ في إعادة إشعال ضرام حرب  كهذه، علمًا أن معظم القيادات اللبنانية، بكل أطيافها، لم تعد تقترب من هذه المنطقة المحرمة في خطاباتها.
على الأرجح، لم يكن الحريري يهيئ نفسه إلا ليكون امتدادًا لأبيه المقاول، لا السياسي. ولأنه كذلك، لم يكترث كثيرًا بالمهانة التي لحقته في الرياض لدى احتجازه، وحمْله على تقديم استقالته هناك، لأنه كان معنيًّا بشركاته واستثماراته في السعودية، أزيد من كونه "رجل دولة" تقترن كرامة شعبه بكرامته هو.. وبدا تحت لسع الإهانات "حريريّ" الروح والجسد. وكان أول ما جادت به قريحته، عقب الإفراج عنه، أن نفى واقعة الاحتجاز كلها، وبارك ابن سلمان، وسحب استقالته التي ادّعى أنه "لم يُرغم عليها"، ثم عاد ثانية، وثالثة إلى الرياض في مؤتمرها الاستثماري الذي قاطعته معظم الدول، ليتزود بمهانة جديدة على المنصة.
أما في لبنان، وبقدرة غريبة على التلوّن، يخلع الحريري لباس "الحرير"، ليرتدي لبوس السبع، ويلوّح بمخالب لا يمتلكها أصلًا.. أما كان يدري، وهو يُحتجز في الرياض ويُهان، أن وطنًا يهان معه، وأن الأوْلى به أن ينتفض لأجل كرامة شعبه على الأقل، إن لم يكترث بكرامته هو، بدل أن يبيعهما معًا بأبخس الأثمان.
لا أدري حقًّا إلى متى يتسع صدر لبنان لهذا الرجل الذي لم يعد يزن قيراطًا واحدًا بنظر كثيرين من أبنائه، بعد "التجربة السعودية"، غير أنني موقنٌ أن بلدًا مضمخة أرضه بدم الشهداء، وبجنوب انهارت على أسواره الأسطورة العسكرية الصهيونية، لن يطيل الصمت أطول مما احتمل.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.