عن الأقصى والمقدسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية

30 اغسطس 2017
+ الخط -
يُعدّ المسجد الأقصى مركزًا للهبّات والثورات ضد الاحتلال الصهيوني، وخط الدفاع الأول عن فلسطين عموما، والقدس خصوصا، ولا مبالغة في القول إنّه قلب فلسطين النابض، وإنّه يحارب، بصموده المقدسي والفلسطيني والعربي والإسلامي، فقد أدّى دورًا بارزًا في حفظ عروبة القدس وتاريخها ونشاطها السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، وهو يُمثّل الصورة الحقيقية للقدس بكامل تفصيلاتها، حتى الاقتصادية منها والمعيشية، كما أنّه رابطها مع العالم، ودرعها الواقي من الأعداء.
وعلى الرغم ممّا يتعرّض له المسجد المبارك من محاولاتٍ لوضع اليد عليه، والعبث بتاريخه العربي والإسلامي، وتغيير معالمه تمهيدًا لإحداث تفجير ما، أو تخطيطٍ لكارثة تدميره، وهذا مطروح في مخططات الاحتلال لبناء الهيكل المزعوم، إلّا أنّ المسجد الأقصى، وحماته من أهل القدس والفلسطينيين في الداخل، في حالة صمود مستمرة ودائمة.
منذ بداية القرن العشرين، عندما تأسس في عام 1922 "المجلس الإسلامي الأعلى" بمبادرة فلسطينية، وبعد جهدٍ متواصل، قامت به اللجنة التنفيذية التي انبثقت من المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث عُقد في حيفا في يناير/ كانون الأول 1920، للإشراف على شؤون المسلمين ومصالحهم، وليتمتع بالاستقلال التام في الأمور الدينية. وقد فازت في انتخابات المجلس، في ذلك الوقت، قائمة الحاج أمين الحسيني رئيسًا، وكانت تضم أيضا عبد الله الدجاني عن يافا، وعبد اللطيف صلاح عن نابلس، وسعيد الشوا عن غزة، ومحمد توفيق مراد عن حيفا.
نظّم المجلس شؤون الأوقاف الإسلامية في القدس، وافتتح فيها كلية إسلامية، ومدرسة للأيتام، كما قام بتنفيذ أعمال وإنجازات مهمة في مقدمتها إنشاء المحاكم الشرعية في القدس، وفتح
عشرات المدارس في بقية المدن الفلسطينية، وتأليف فِرق الجوالة والكشافة الإسلامية، وتأسيس الجمعيات الخيرية والأندية الأدبية والرياضية. وغدا المجلس الإسلامي، على مرّ الأيام، أكبر قوة وطنية إسلامية في الوطن العربي، ووقف وقفة وطنية دافع فيها عن الحقوق الفلسطينية، وتصدّى لسياسات التهويد وبيع الأراضي. وعندما أفشلت بريطانيا عمل المجلس، نقل قيادته إلى المسجد الأقصى، واعتبره حصنه المنيع في الدفاع عن المقدسات الإسلامية، وعن المسلمين، في فلسطين.
انطلقت في عام 1929 ثورة البراق، حين حاول الصهاينة الاستيلاء على الجدار الغربي للمسجد الأقصى، حيث يزعمون أنّه حائط مبكاهم، فتصدّى لهم أبناء القدس والفلسطينيون الذين هبّوا منتفضين، وتوافدوا على القدس للدفاع عن أقصاهم، ومنعوا المصلين الصهاينة من الوصول إلى حائط البراق، فكانت معركةً دامية سقط فيها شهداء فلسطينيون وعدد من اليهود.
كانت قرارات المجلس تصدر من المسجد الأقصى، بتحريك التظاهرات والاحتجاجات والانطلاق من ساحاته، وحتى الاتفاقات والتسويات كانت تصدر من القيادة الموجودة مباشرة في المسجد الذي تحصّن به الحاج أمين الحسيني ورفاقه في ثورة 1936 قبل مغادرته البلاد، وكان مقرّه، وبعض الثوار، في المدرسة التنكزية قرب باب المغاربة المفضي إلى ساحة البراق، وأُطلق اسم خاص على أحد أبواب المسجد، فصار يُعرف بـ "باب المجلس"، بسبب إقامة إدارة المجلس فيه، ودخول المجتمعين وخروجهم هم وأعضاء المجلس الإسلامي منه. وإلى جانب ذلك، ظلّ المسجد الأقصى منارة للعلم، والاستزادة من علوم القرآن من خلال مدارسه ومصاطبه التي كانت تُدرّس علوم الدين والشريعة وحفظ القرآن، وتعطي دروسًا في الوطنية والشجاعة في الدفاع عن الأقصى.
انتصار المقدسيين، أخيرا، في الهبّة التي سُمّيت "باب الأسباط"، وبما يملكون من إمكانات ذاتية محدودة، ومن دون أي دعم عربي أو إسلامي، لا من قريب ولا من بعيد، وصمودهم أمام الآلة العسكرية التي كانت معدّة لفرض واقع جديد عليهم، ووضع اليد على المسجد الأقصى والأبواب النافذة إلى ساحات الحرم وأبواب المدينة، وأي منفذ ممكن أن يصل من خلاله المصلون إليه. وتقليص عدد المصلين وإخضاعهم للتفتيش الإلكتروني عبر البوابات الضخمة التي نُصبت لهم على المداخل ومراقبتهم بالكاميرات.
وقد استطاع أهل القدس؛ بمفتيها وعلمائها وأئمتها الذين تصدّروا التظاهرات والاعتصامات، ورابطوا مع شيوخها وشُبّانها ومرابطيها من النساء والرجال ليلًا ونهارًا، في خندق واحد ويد واحدة وصوت واحد؛ إسلامي ومسيحي، استطاعوا وقف غطرسة الصهاينة، ومنع مشروع إخلاء ساحات الأقصى، والتحكّم بأعداد المصلين الداخلين إليه وأعمارهم، وفرض استخدام باب واحد أو اثنين لدخول المصلين المسلمين، وتخصيص باب المغاربة فقط لدخول وفود المستوطنين الصهاينة، وتسهيل حمايتهم، مع أنّ هناك أكثر من بابٍ يدخل منه المصلون المقادسة إلى ساحات المسجد الأقصى.
والأهم من ذلك أنّ مشروع مخطط التقسيم الزماني والمكاني للسيطرة على أربعة آلاف مربع
ما بين بابي السلسلة والمغاربة لا يزال يتصدى له المقدسيون، بكامل قوتهم، لمنع الصهاينة من أخذ موطئ قدم في الأقصى، معرّضين أنفسهم للقتل أو الاعتقال على أيدي جيش الاحتلال الذي يرافق المستوطنين إلى ساحاته لحمايتهم. هذا وتسعى حكومة الاحتلال، ومنذ زمن، وبالوسائل كافة، إلى فرض سيادتها على "الأقصى"، والتحكم بمواعيد الصلاة ودخول المصلين إليه.
بتوفيق من الله، وبقوتهم وعزيمتهم وصمودهم، أجبر المرابطون الاحتلال على الرضوخ لمطالبهم، أي تفكيك البوابات الإلكترونية، وإزالة كاميرات المراقبة، والعودة إلى الوضع السابق؛ لا للتفتيش، لا للبوابات الإلكترونية، لا للكاميرات. وفُتحت الأبواب والمنافذ، وسُمح للمصلين بالدخول إلى المسجد الأقصى.
أرادت إسرائيل من الاعتداءات العنصرية المتكرّرة على المسجد الأقصى والمصلين أن تختبر ردّات فعل الأمتين العربية والإسلامية تجاه ما يحدث، لكنّ أهل القدس والشعب الفلسطيني قالوا كلمتهم إنّ القدس ومقدساتها لنا، ولا سلطة للاحتلال عليها. قالوا بعزيمةٍ أدهشت العالم، وأدهشت عنجهية الاحتلال الذي تراجع عن مخطاطاته وبواباته الإلكترونية وكاميراته وآلات التفتيش التي كانت ستعبث بأجساد أهلنا في القدس عند كل دخول لهم إلى المسجد الأقصى.
أسقط أهل القدس، برباطهم وشجاعتهم أمام الأبواب، واعتصامهم في كل حارة وزاوية مشارفة للمسجد الأقصى، الشعارات الزائفة التي أسست لها حكومة الاحتلال بقدس موحدة عاصمة لإسرائيل، وبأنّ ما يُسمى جبل الهيكل أصبح تحت السيطرة الإسرائيلية. ولكن هيهات هيهات!
0ABA2F92-CC0A-4267-A585-73BDB3CB2F07
0ABA2F92-CC0A-4267-A585-73BDB3CB2F07
نائلة الوعري

كاتبة وأستاذة جامعية وباحثة فلسطينية في تاريخ فلسطين الحديث، لها عدة مؤلفات ودراسات منشورة. الأمين العام لتجمع نساء من أجل القدس. من مؤلفاتها (دور القنصليات الأجنبية في هجرة اليهود إلى فلسطين 1840-1914) و(موقف الولاة والعلماء والأعيان والإقطاعيين من المشروع الصهيوني).

نائلة الوعري