مؤسسات التفكير والمشورة في إسرائيل.. أي دور؟

مؤسسات التفكير والمشورة في إسرائيل.. أي دور؟

10 يوليو 2017

الكنيست من المؤسسات الحاسمة لصنع القرار الإسرائيلي (24/6/2015/فرانس برس)

+ الخط -
عملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية في الدول المهمة مسألة معقدة جداً، وتخضع لمعايير مختلفة، بعضها له صفة الثبات، وبعضها الآخر متغير بالضرورة. وعلى العموم، فإن الجغرافيا تتحكّم بالإطار العام لمفاهيم الأمن القومي على المستوى الشامل. ومن الجغرافيا، بالتحديد، ظهر ما سُمِّي "الجغرافيا السياسية" (Geopolitic). وعلى سبيل المثال، فإن الأمن القومي في مصر يقوم على ثلاث ركائز أساسية هي: منابع النيل (أي أفريقيا) وباب المندب (أي شرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية) والشام (فلسطين بالدرجة الأولى)، لأن أي تهديدٍ لمنابع النيل، أو لتدفق المياه عبر مجراه، من شأنه أن يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري. وكذلك فإن إغلاق باب المندب يجعل قناة السويس غير ذات قيمة. كما أن مصر كانت دائماً مطمئنة إلى أمنها من الغرب؛ فهي محميةٌ بالصحراء، ومن الجنوب، فهي محميةٌ بالأدغال، ومن الشرق؛ فهي محمية بالماء. أما الخطر الفعلي فيأتي من الشمال. ولهذا، كانت الشام منطقة شديدة الأهمية للأمن القومي المصري، وعلى أرض الشام، دافعت مصر عن مصالحها في وجه الحثيين والمغول والصليبيين والأتراك... إلخ. وقد كان الفراعنة يرسلون جيوشهم إلى قلب أفريقيا لحماية منابع النيل. ولهذا، لم يكن مستغرباً أن يُرسل الرئيس جمال عبد الناصر وحداتٍ من جيشه إلى أوغندا لهذا الغرض، وإلى اليمن لحماية التحول الجمهوري فيه، وفي الوقت نفسه، حماية باب المندب، وأن يصل إلى قلب الشام بإعلان الوحدة السورية – المصرية في سنة 1958.
القصد من هذا التقديم هو التأكيد على أن الجغرافيا تقرّر، إلى حد بعيد، طبيعة المصالح القومية، وهي تكتسب قدراً عالياً من الثبات ربما يتبدّل، لكن على المدى الطويل. ولا ريب في أن ثمّة عوامل أخرى، كثيرة تسهم، بدورها، في تحديد المصالح لأي بلد، وهي عوامل متبدلةٌ في المدى المتوسط، وشديدة المرونة إزاء المتغيرات الإقليمية والدولية على المدى القريب، مثل الاقتصاد وطبيعة النظام السياسي وأنماط الزعامات والصراعات الداخلية والتحالفات الناشئة وغيرها.
يمكن القول، في هذا الميدان، إن عملية اتخاذ القرار في أي بلدٍ، تخضع لفهم المصالح الثابتة والمصالح المتغيرة في آن. ولا شك في أن متّخذي القرارات يختلفون من بلد إلى بلد، بحسب النظام السياسي السائد. ففي بلدان المركزية السياسية تتركز عملية اتخاذ القرار بين يدي الحاكم وحلقة محدودة من المحيطين به، ولا سيما بين رجال الأمن والسياسة. بينما، في النظم السياسية الديمقراطية، تتسع قاعدة صنع القرار، فتشارك فيها هيئاتٌ ومؤسساتٌ شتى، تعكس بدورها المصالح المتنوعة والمتنافسة للأمة. ولا تشذ إسرائيل، في نهاية المطاف، عن هذا الأمر، مع أنها تشكّلت دولةً، في سياق استعماري وليس في سياق تاريخي.


مفاهيم الأمن القومي
لأسباب جغرافية بالدرجة الأولى، صاغ المفكرون الاستراتيجيون الإسرائيليون مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي التي ترسّخت، بقوة، طوال المرحلة بين 1948 و1973، ثم تبدلت لاحقاً في بعض جوانبها. وقد وجد هؤلاء أن ضيق خاصرة دولة إسرائيل، ولا سيما بين القدس وتل أبيب (نحو 12 كيلومتر) مدعاة للخطر الشديد، وكان يجب، بحسب رأي هؤلاء، أمثال موشيه دايان ودافيد بن غوريون ويسرائيل غاليلي، أن تتوسع إسرائيل شرقاً، لإبعاد خطر شقّها إلى قسمين، ثم أنها تحتاج إلى التوسع الجغرافي لاستيعاب المهاجرين اليهود. وعلاوة على ذلك، رأى واضعو الاستراتيجيات في إسرائيل أن إسرائيل لا تتحمل هزيمة واحدة في وجه العرب. لذلك، لا بد من الوصول إلى الوضع الأمثل، مثل التفوق العسكري على دول الطوق العربية مجتمعةً، وأن أي معركة يجب ألا تقع في نطاق الدولة الاسرائيلية، بل يجب نقلها إلى أراضي الخصم فوراً.
كانت جميع القرارات الاستراتيجية التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة متطابقةً مع هذه الرؤية. أما التبدلات فقد وقعت بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، حينما اكتشفت إسرائيل، بالتدريج، أن إمكانات التوسع الجغرافي باتت غير ممكنة، وغير مجدية، تبعاً لحسابات المرابحة السياسية، ولا سيما بعد أن وصلت معدلات الهجرة اليهودية إليها إلى أقصى الممكن، بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، ثم بدأت بالتراجع والانحسار بعد سنة 1973 فصاعداً. واكتشف قادة إسرائيل أيضاً أن دور الجغرافيا في تحقيق الأمن القومي الأمثل ما عاد حاسماً وحده في عصر التطوّر المتسارع للتكنولوجيا وللأقمار الصناعية وللصواريخ العابرة للقارات. وكان لا بد من إعادة صوغ مفاهيم الأمن القومي الاسرائيلي على أسس جديدة.

من يصنع القرار؟
تتخذ القرارات، من الناحية القانونية، في الحكومة وفي المجلس الوزاري المصغر أولاً (cabinet)، وكذلك في الكنيست أيضاً. لكن أي قرارٍ، وأقصد القرارات الاستراتيجية وليس القرارات الإدارية المعتادة، كي يمر في هاتين المؤسستين، يجب أن يُصاغ محصلة توافق بين القوى السياسية الرئيسة التي تشكل معاً الأكثريتين، البرلمانية والحكومية. وبهذا المعنى، فإن أي قرارٍ من القرارات العليا يتسم، في العادة، بقدرٍ كبير من تمثيله المصالح الكبرى للبلاد، كما تتفق عليها القوى السياسية. لكن طبيعة النظام السياسي في إسرائيل تجعل، في أحيانٍ كثيرة، قوىً غير أساسية، وشخصياتٍ هامشية إلى حد ما، قادرةً على إعاقة اتخاذ القرارات، بل إسقاط الحكومة في بعض الحالات. وعلى سبيل المثال، فإن حركة "شاس" لليهود السفاراد أو حزب "بعلياه" (الصعود) لليهود الروس، أو حزب "يسرائيل بتينو" (إسرائيل بيتنا)، يمكنها، مجتمعة ومنفردة، التحكّم بقراراتٍ كثيرة، من خلال إعاقتها، أو التهديد بالانسحاب من الائتلاف الحكومي، الأمر الذي يجعل الحكومة الائتلافية واقعةً تحت هذا التهديد، إذا أرادت الاستمرار في الحكم.
كان أصحاب القرار يأتون، في العادة، من الجيش، ولا سيما مَن كان له سجل خدمة حافل بالإنجازات في "الهاغاناه" قبل 1948، أو في "تساحل" (الجيش الإسرائيلي) بعد سنة 1948. لكن، ابتداء من سنة 1977، أي في سنة الانقلاب السياسي الكبير الذي حمل حزب اللكيود، بقيادة مناحيم بيغن، إلى السلطة، ظهر مسار سياسي جديد، أفسح في المجال للفئات الاجتماعية الأقل كفاءة كي تصعد إلى المستوى القيادي. وانبثق، إلى جانب هذا المسار، مسار آخر في المجتمع، ينحو نحو الليبرالية الاقتصادية، بكل ما يعنيه هذا الأمر من دور متزايد للتجارة ولوسائل الإعلام ولفنون الاتصال والدعاية والترويج. فالصهيونية الاشتراكية، كما صاغها حزب الماباي (وكما ورثها حزب العمل)، كانت تعني الروح الجماعية في "الكيبوتس" والتعاون في "الموشاف" والتفاني وتكيُّف المهاجرين مع شروط الحياة الجديدة بلا تذمر أو تأفّف، والسعي الريادي إلى بناء الدولة. لكن، منذ كشف الصحافي دان مرغليت في 1976 عن الحساب المصرفي للسيدة ليئة رابين في واشنطن، الأمر الذي أدى إلى استقالة يتسحاق رابين، زوجها، من رئاسة الحكومة، ومن ثم وصول الليكود إلى السلطة، ازداد تأثير وسائل الإعلام في مصائر السياسيين على الطريقة الأميركية. وبالتدريج، منحت الليبرالية الجديدة كثيرا من الشخصيات الحزبية المتواضعة إمكانية الصعود إلى المستويات العليا في أحزابها، نتيجة الطريقة الأميركية في اختيار القادة في الانتخابات الداخلية (البرايمرز). وبالتالي، يصبح في إمكان هؤلاء اقتحام المركزين الرئيسين لاتخاذ القرار، أي الكنيست والحكومة. وهنا، لعبت الصحافة ووسائط الاتصال والطرائق الحديثة في العلاقات العامة دوراً مهماً في بروز النخب السياسية الجديدة، وما عاد الأمر قاصراً على المزايا الفردية، كتاريخ الخدمة في الهاغاناه أو في الجيش مثلاً.

يتيح المجتمع الإسرائيلي، إلى حد ما، صعود أفراد من النخب السفارادية والروسية إلى مواقع اتخاذ القرار، غير أن هذا الأمر لم يكن على هذا النحو قبل منتصف سبعينيات القرن العشرين. واليوم، راحت المؤهلات الشخصية تؤدّي دوراً مهماً جداً في بروز هذه النخب الجديدة، ولا سيما في الجيش والمؤسسات العلمية، كالجامعات ومراكز البحث والمشورة والصحافة والأحزاب. صحيح أن المجتمع الإسرائيلي ليس مجتمع مساواة، بل هو لا يعير المساواة بين العناصر التكوينية له (السفاراد، الفلاشا، الحريديم، العرب... إلخ) أي اعتبارٍ جدّي، لكن الحراك الاجتماعي بين الفئات المختلفة شديد الحيوية، الأمر الذي يتيح للكفاءات الانتقال الصعودي بين الطبقات. وعلى سبيل المثال، فإن كثيرين من الأيتام الذين استقدمتهم الوكالة اليهودية إلى إسرائيل مبكراً، وبلغ عددهم نحو مئة ألف، تمكنوا من الوصول إلى مناصب قيادية في الدولة، بعدما عاشوا في مؤسساتٍ شبابيةٍ، ذات طابع شبه عسكري.
مهما يكن الأمر، يتميز المجتمع الإسرائيلي باتساع قاعدة الذين يقرّرون مصيره (600 ألف شخص). ومن هذه القاعدة، تصعد النخبة القيادية (5 آلاف). وبهذا المعنى، يساهم الشعب في صنع القرار حقاً، وللرأي العام قيمة فعلية، وإنْ لم تكن حاسمة، في صنع القرار؛ فمن شأن الانتخابات الدورية إطاحة بعض صانعي القرار لمصلحة مجموعة أخرى منافسة، تصنع قراراتٍ مختلفةً إلى حد ما.
مؤكّد أن المجتمع الاسرائيلي تغير جوهرياً مقارنة بالمراحل الأولى من تشكّله، فالنخب الأشكنازية التي بنت إسرائيل، وصاغت مفاهيم الأمن القومي، وحدّدت تطلعات هذا الكيان ومستقبله، شاخت الآن، وتراجعت حتى على المستوى العددي. بينما النخب السفارادية التي راحت تنظم نفسها في ستينيات القرن العشرين (حركة الفهود السود مثلاً)، والتي كانت القاعدة التصويتية لحزب الليكود، لم تتمكّن، بعد نحو ثلاثين سنة على وصول الليكود إلى الحكم في مايو/ أيار 1977، من الحلول محل الأشكناز. وتبدو إسرائيل، بهذه الصفة، دولةً تتعاكس فيها النخب القيادية، ولا تتنافس. وقد ازدادت هذه الحال بقوة في بداية الألفية الثالثة. وبدلاً من أن تتحول إسرائيل من صهيونية التعاون والروح الجماعية إلى طور أعلى في بنية المجتمع، راحت ترتفع فيها موجة الإثنية (اليهود الروس أو الفلاشا مثلاً) وروح التشبث بالتقاليد الأصلية للمهاجرين، والبحث عن مستوىً أفضل لحياتهم. فالجماعات الإثنية السفارادية تبدو متعلقةً بشدة بقادتها ("شاس" مثلاً)، وكذلك الجماعات الإثنية الإشكنازية (الروس مثلاً)، ويعبر هؤلاء جميعاً عن كراهيتهم التكيف والصهيونية التقليدية وأفكارها في العمل الجماعي، والتعاون والتقشّف، في وقتٍ يعلنون فيه تعلقهم بالفردانية التي تجد في الليبرالية، وحتى النيوليبرالية الاقتصادية، ميدانها الأثير.

مؤسسات صنع القرار
هناك ثلاث مؤسسات حاسمة تصنع القرار في نهاية المطاف: السياسية، والعسكرية، والأمنية. ويُقصد بالمؤسسة السياسية الحكومة والكنيست. أما العسكرية فهي وزارة الدفاع (لها طابع مزدوج، فهي جزء من الحكومة وجزء من المؤسسة العسكرية في آن) وهيئة الأركان. بينما تتشكّل المؤسسة الأمنية من ثلاثة أجهزة رئيسة: "الموساد" (الاستخبارات الخارجية) و "أمان" (الاستخبارات العسكرية)، و"الشاباك" (الاستخبارات الداخلية). لكن هذه المؤسسات الثلاث تعمل بصفتها المصفاة التي يتقطر منها أي قرار استراتيجي، غير أن ثمّة مؤسسات أخرى فائقة الأهمية، لها شأن كبير في صوغ القرارات المتعلقة بالمصالح العليا للدولة الإسرائيلية: الهستدروت (الاتحاد العام للعمال اليهود في إسرائيل)، والمجمع العسكري- الصناعي، وبورصة الألماس في "رامات غان" في تل أبيب، واتحاد أرباب الصناعة والمصارف الكبرى، والحركة الاستيطانية، ورجال الدين الكبار. وتستعين هذه الهيئات كلها بمراكز للبحث والتفكير والمشورة، بل إنها تمول بنفسها بعض هذه المراكز.
مراكز التفكير هذه التي اصطُلح على تسميتها في الغرب Think Tanks هي المؤسسات التي تعكف على صناعة الأفكار، وهي مرحلةٌ تسبق صناعة القرار. وهذه لا تتخذ القرار بنفسها، بل تساعد رجل السياسة وأصحاب القرار على اتخاذ القرارات التي تخضع، في جميع الأحوال، لاعتباراتٍ مكشوفة أحياناً، أو خفيةً، قد لا يعرفها الباحث الأكاديمي. وتختلف مراكز التفكير والرأي والمشورة عن معاهد البحث والتطوير Research and Development التي تعمل في خدمة الصناعات العسكرية والمدنية وقطاع التكنولوجيا، مثل معهد حاييم وايزمان للعلوم الذي أُسس في رحوبوت في 1933، وفيه جرت التجارب النووية الأولى في إسرائيل، ومثل معهد إسرائيل للهندسة التطبيقية ("التخنيون") الذي أُسس في حيفا سنة 1924. ومراكز التفكير هذه إنما هي مصانع للفكر، وهي أحد أسلحة إسرائيل القوية في حقل العلوم السياسية، وفي الاستراتيجيا، وهي أيضاً مؤسساتٌ وسيطةٌ، تحاول أن تسد الفجوة بين ميدان البحث العلمي وعالم رجال السياسة البعيدين، نسبياً، عن هذا الميدان.

لا تقتصر هذه المراكز في عملها على المشورة، بل تعمل في اتجاهين معاً: التأثير في القرار السياسي، بمساعدة صاحب القرار على اتخاذ قراره، والتأثير في الرأي العام، بنشر نتائج الأبحاث وترويجها، وإيجاد بيئةٍ سياسيةٍ مؤيدةٍ هذه القرارات. وفي جميع الأحوال، فإن هذه المراكز، ومهما يكن دورها، كبيراً أم صغيراً في صنع القرار، باتت تساهم إسهاماً مشهوداً في تطوير المعرفة، ولا سيما أنها تستقطب كثيرين من الأكاديميين وأصحاب الخبرة. ثم إن المستوى السياسي في إسرائيل أصبح غير قادر على اتخاذ القرارات، بمعزل عن بعض هذه المراكز التي برهنت أن من المحال الاستغناء عنها قبيل صنع القرارات.
من الصعب، حقاً، قياس نصيب هذه المراكز في عملية اتخاذ القرارات قياساً معيارياً. ولعلني لا أجازف كثيراً في القول إن دور المعاهد والمراكز البحثية المستقلة مهم جداً في مجال المعرفة، وفي مجال الإعلام، لكن دورها محدودٌ في صنع القرارات العليا. لأن أصحاب القرار في إسرائيل، وإن كانوا يستنيرون بنتائج أبحاث مراكز المشورة المستقلة، إلا أنهم يعتمدون، بالدرجة الأولى، على وحدات الدراسة والبحث والتخطيط التابعة للمؤسستين، الأمنية والعسكرية. واللافت أن لدى معظم الهيئات الأساسية الحكومية وحدات للبحث والتخطيط والمشورة، مثل هيئة الأركان ووزارتي الدفاع والخارجية ورئاسة الحكومة. والسياسي يعتمد، أساساً، على ما تزوده به هذه المؤسسات التي ترتبط، مالياً أو أكاديمياً، بهيئات علمية أو حزبية أخرى.
مهما يكن الأمر، تنقسم مؤسسات البحث والمشورة في إسرائيل، من حيث التبعية، إلى ثلاث قطاعات أساسية: الجامعي: مثل معهد هاري ترومان ومركز جافي. القطاع الخاص: مثل معهد فان لير والمركز الإسرائيلي للديمقراطية. الحكومي: مثل المراكز التابعة للوزارات الأساسية، كوزارة الدفاع وهيئة الأركان وأجهزة الأمن وغيرها.
في جميع الأحوال، ليست المعرفة في إسرائيل في مكان والسلطة في مكان آخر، بل إن المعرفة، في حد ذاتها، سلطة. ومراكز المشورة باعتبارها تصنع المعرفة أيضاً تحتاج إلى السلطة، لتزويدها بما تنتجه. والسلطة أيضاً تحتاج هذه المراكز، لكي تتمكن من اتخاذ قراراتها بطريقةٍ أكثر علمية وأقل مجازفة. ويوجد في إسرائيل اليوم أقل قليلاً من ثلاثين مركزاً للبحث والتفكير والمشورة، وهي تحتل المرتبة 23 عالميا. ولعلها تحتل المراتب الأولى في العالم، لو أخذنا في الاعتبار الفوارق البشرية والمالية بينها وبين الدول الكبرى، كالصين وألمانيا وانكلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية.
ازداد عدد هذه المراكز، باطراد بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 لمواجهة المشكلات الجديدة التي ظهرت في وجه إسرائيل، كالاحتلال المباشر، والسكان العرب، والمقاومة، والأمن، والاستيطان، ومشاريع السلام وغير ذلك. وبعض هذه المراكز يعمل مظلة لشبكة من المعاهد والمؤسسات البحثية التي يغطي نشاطها مختلف جوانب الحياة العامة في إسرائيل. ومن باب المقارنة، فإن مؤسسات التفكير في العالم العربي، إلا القليل منها، هي مؤسسات غير محايدة، أي غير مستقلة، ولو حتى بالحد الأدنى من الحياد النسبي، بل هي تابعة للمؤسسة الحاكمة، وغايتها، لا تقديم المشورة العلمية فحسب، بل منح الشرعية. وهنا، تهيمن السلطة في العالم العربي هيمنة شبه كاملة، على هذه المؤسسات، وتحول دون استقلاليتها. بل إنها في الحالات القليلة التي تعمد هذه السلطة إلى إنشاء مؤسساتٍ للمشورة لا تلبث أن تحوِّلها إلى مؤسسات دعائية.