قصة الغارة الأردنية

قصة الغارة الأردنية

08 فبراير 2017

مقاتلة أردنية في تدريب مع قوة أميركية (10/3/2016/فرانس برس)

+ الخط -
إذا تجاوزنا محاولة الربط بين الغارة التي شنتها، في الرابع من فبراير/ شباط الجاري، مقاتلات أردنية على مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية جنوب سورية بالذكرى الثانية لإقدام التنظيم على جريمة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، باعتبارها فعلاً دعائياً، يهدف إلى دغدغة مشاعر العامة الذين يعانون هموم معاشية كبرى، وإذا قفزنا مباشرة نحو الوقائع الأكثر أهمية، نجد أن القرار الأردني جاء بعد زيارتين قام بهما الملك عبد الله الثاني إلى موسكو وواشنطن على التوالي في الأسبوع الأخير من يناير/ كانون الثاني الماضي، والتقى خلالهما الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب. والملك عبد الله بالمناسبة هو أكثر زعيم عربي زار موسكو في السنوات الأخيرة، وتربطه بها علاقات متينة، إذ كان الأردن، إلى جانب إسرائيل، مقصد أول جولة خارجية قام بها بوتين بعد عودته إلى الرئاسة ربيع العام 2012، أما علاقة الأردن بالولايات المتحدة فخصوصيتها لا تحتاج إلى بيان أو تفصيل.
وبسبب أوضاعه الجيوسياسية الدقيقة، كان الأردن على الدوام الأكثر قدرةً على قراءة السياسات الإقليمية والدولية، والأسرع في التواؤم معها، فمن جبال عمان يمكنك أن ترصد كل اتجاهات الريح في المنطقة، وفي عواصم العالم الكبرى أيضاً. وواضحٌ أن الأردن استشعر مقدار التحول في السياسة الأميركية، وأراد أن يعاين بنفسه أولويات الرئيس الجديد في المنطقة، وهما اثنتان: مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية وأخواتها واحتواء إيران وأذرعها، وعاد الملك من واشنطن يتصرّف على هذا الأساس. وعليه، مثلت الغارة الجديدة تأكيداً على عضوية الأردن في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وعرضاً لجهوزيته لتأدية دوره فيه، وكذلك الأمر في حال قررت إدارة ترامب المضي في مشروع المناطق الآمنة التي يرجّح في حال إنشائها أن يكون قسمها الجنوبي على الحدود مع الأردن وإسرائيل. ما يستوجب أيضاً إغلاق الباب الموارب في وجه إيران، وتوجه حتى للتصعيد معها. وهو تحول سنشهده، على الأرجح، في الموقف المصري كذلك، بعد محاولات للانفتاح على إيران، باعتبارها الطرف الرابح في الصراع الكبير الذي يدور على العراق وسورية. وكانت سلطنة عمان السباقة إلى هذه الاستدارة، بعد أن استشعرت مبكراً هبوب رياح خماسينية حارة من واشنطن على طهران.
لكن، وبمقدار ما كان القرار الأردني منسجماً مع توجهات إدارة ترامب، لم يكن ممكناً تنفيذه من دون موافقة روسية، فالأردن، كما تركيا، وإسرائيل أيضاً، لا يملك خيار خرق الأجواء السورية من دون تنسيق كامل مع روسيا التي تتحكم بهذه الأجواء، من خلال منظومات صواريخ إس 300 وإس 400 التي تغطي كامل الأراضي السورية، وأجزاء من أراضي الجوار. والمعروف أن حجم التنسيق العسكري والاستخباراتي الأردني - الروسي بلغ مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وغيره من الجماعات الجهادية الناشطة في الجنوب السوري. فوق ذلك، طلبت روسيا مساعدة الأردن في دفع فصائل الجنوب إلى القبول باتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار في سورية، وحضور اجتماع أستانة. وبالفعل، حضر أبو أسامة الجولاني، قائد جبهة ثوار سورية، ممثلاً عن فصائل الجنوب في أستانة. والمعروف عن الجولاني علاقاته الوثيقة بالمخابرات الأردنية. وزيادة في استمالته إليها، وجهت موسكو دعوة للأردن للمشاركة في محادثات أستانة الفنية، لتثبيت وقف إطلاق النار في سورية، إلى جانب خبراء من روسيا وتركيا وإيران، والتي عقدت اجتماعها الأول الإثنين الماضي. وكان الأردن توصل إلى ما يشبه تفاهم مع روسيا، بعد تدخلها العسكري في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015 ينص على وقف هجمات فصائل الجبهة الجنوبية ضد قوات النظام، في مقابل عدم استهدافها بالغارات الروسية، ما كان سيؤدي إلى موجة نزوح كبيرة عبر الحدود. وقد التزمت موسكو وعمان ببنود هذا التفاهم عموماً، إذ هدأت الجبهة الجنوبية كلياً تقريباً منذ الربع الأخير من عام 2015.
وبإعطائه إذناً بشن غارات عبر الحدود، تحاول روسيا استثمار حماسة الأردن لأجندة الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة، وفي الوقت نفسه، استمالة حليف أساسي آخر لواشنطن لدعم جهودها السياسية والعسكرية، لترتيب الأوضاع في سورية، بعد أن نجحت في فعل ذلك مع حليفين آخرين للولايات المتحدة (تركيا في الشمال وإسرائيل في الجنوب). ولم يبق سوى أن ينضم ترامب نفسه لهذه الجهود! سوف يكون مثيراً في الفترة المقبلة مراقبة ردود فعل إيران على مقاصد الروس وترتيباتهم بعد غارة الجنوب.