من فصول الربيع العربي المبكّرة

02 أكتوبر 2017
+ الخط -
صنع العرب فصولًا من الحرية قبل ثورات الربيع العربي في العام2011، كانت لهم محطات قبل أن يتسلط العسكر على بلادهم في الستينيات، مستثمرين نكباتهم وهزائمهم في فلسطين، ثم استأنفوا جولاتهم، وإن كانت قصيرة، عقب انكشاف عقم (النظام التقدمي) في الثمانينيات، وبروز علامات انهيار الاتحاد السوفييتي وإفلاسه الاقتصادي والأيديولوجي. ظهر ذلك في الأردن والجزائر ولبنان، وظهر مثل برق خاطف وحلم منكسر في سورية.
.. أطل الربيع العربي في نهاية الثمانينيات، 1989 على الأردن، فهيأ للشعب فرصة الانتقال إلى طريق آمنة، فعقب مظاهرات واحتجاجات عاصفة في مدن في الجنوب الأردني ثم في الشمال، بادرت السلطة إلى ملاقاة الشعب بمطالبه في منتصف الطريق، بتقديم برنامج إصلاحي متواضع، لكنه فعَّال. أُعيدت الانتخابات البرلمانية بعد انقطاع طويل امتد منذ السبعينيات، وأطلقت حرية الصحافة وحرية الرأي والنشر، فوضِع الأردن على سكة السلامة التي منحته فرصة تجاوز الانقسامات التي أحدثتها أزمة حرب الخليج الثانية، والتوافق بين الحاكم والمحكوم، على الرغم من أن النظام دفع ثمنًا غاليًا جرّاء وقوفه إلى جانب الحلول السياسية لمشكلة الغزو العراقي للكويت، بل تجنب الأردن الابتلاء بعدوى الإرهاب، وعنف التيار "الجهادي" السلفي ومخاطره، عندما ترك الباب مفتوحًا للمستقبل، ولو بطريقة مواربة.
وفي الجزائر، أطل الربيع العربي مبكرًا قبل أن يطل على العرب بعشرين عامًا، فعقب انفجار تظاهرات واسعة للجزائريين، احتجاجًا على الفساد وتفاقم الأزمة الاقتصادية (ثورة الخبز) نهاية الثمانينيات، لجأ الرئيس الشاذلي بن جديد إلى توسيع دائرة الحرية، وإجراء انتخابات تشريعية برلمانية في 1989، لتكون منعرجًا للديمقراطية، لكن العسكر الفرانكفوني الذي ترعرع على الاستبداد كان بالمرصاد، فعندما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات، بقيادة عباسي مدني، بالأكثرية الساحقة، أوقف العسكر المسار الانتخابي والعملية الديمقراطية برمتها، وأُجبر الرئيس الشاذلي على الاستقالة، وأعادوا البلد إلى نقطة الصفر. وواجهوا
المحتجين والمتظاهرين بالعنف، والسجون. فشكلت هذه التطورات صدمة للملايين الذين انتُزِعت منهم خياراتهم الانتخابية، فكان هذا سببًا لنجاح الدعوة إلى حمل السلاح لمواجهة التيار الانقلابي الذي لن يتوقف حتى 1998-1999، إثر مبادرة المصالحة الوطنية (الوئام المدني) التي بدأت مع اليامين زروال، غير أن عنف الثورة المضادة وتأثير التجربة الأفغانية أدخل توجهات "جهادية" عنيفة إلى الميدان، فتمزقت الحركة الإسلامية أمام استخدام القوة والعنف، كان أكثرها اعتدالًا الجبهة الوطنية للإنقاذ (عباسي مدني) التي هي خليط من مدارس إسلامية متباينة المشارب: جماعة الطلبة (الشيخ محمد السعيد)، ويعود نسبها الفكري إلى مالك بن نبي. ووقف إلى جوار الجبهة هذه الإخوان المسلمون (محفوظ نحناح)، وحزب النهضة الإسلامية (عبدالله جاب الله).
ثم فرض ارتفاع صوت السلاح والمواجهة الدامية الانشقاق في صفوف جبهة الإنقاذ، فانشق فريق من مجلس شورى الجبهة 1991، وشكل فصيلًا باسم "جيش الإنقاذ" بقيادة مدني مرزوقي، واتجه هذا الفريق إلى رفض الديمقراطية، وما لبثت أن برزت إلى جواره الجماعة الإسلامية المسلحة، في الميدان (الجهادي)، فكانت في دمويتها وعنفها صورة مصغرة عن "داعش"، تألفت نواتها من الأفغان الجزائريين، ومن الجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى. وكان هذا الصعود للعنف بمثابة الصورة المقلوبة عما تفعله الأجهزة الأمنية الجزائرية من استئصال، والتي قتلت مئات المعتقلين، في سجن سر كاجي مثلا، لم يُستثن الأطفال والنساء. وفي المقابل، صعّدت الجماعة الإسلامية المسلحة، تحت قيادة عبد الرحمن أمين، من عملياتها الدموية، بل أفتوا بقتل أطفال العاملين في أجهزة الدولة ونسائهم، وأباح عبد الرحمن دم كل من خالفه من قادة الجماعات الإسلامية، بمن فيهم قادة جبهة الإنقاذ!
دفعت تلك المجازر المتبادلة كثيرين من قيادة جبهة الإنقاذ في الخارج، وغيرها من القيادات الإسلامية والعلمانية والشيوعية، إلى عقد مؤتمر برعاية الفاتيكان، يدعو إلى المصالحة الوطنية، والحل السياسي، فرفضت هذه الدعوة الحكومة والجماعة الإسلامية التي عمل أميرها الجديد، عنتر الزواوي، على متابعة مسلسل الإجرام والقتل، إلى أن قُتل عام 2003. وتصاعدت الدعوة إلى الوئام الوطني، فكان "جيش الإنقاذ" بقيادة مدني مرزاق من أوائل المستجيبين لها. ولكن لم تشف الجزائر من جراحها إلى الآن، لا بسبب الدماء الغزيرة التي جرت بسيوف الأجهزة، بل على الأغلب من الجراح الغائرة التي ارتكبتها "الجماعة الإسلامية".
انتقالا إلى لبنان، هبت على هذا البلد، إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق والنائب، رفيق الحريري، في فبراير/ شباط 2005، ثورة عارمة شارك فيها أكثرية الشعب اللبناني بكل طوائفه، مرددًا شعارات "الحرية السيادة الاستقلال" في مواجهة النظام الأمني المخابراتي التسلطي الذي أقامه نظام حافظ الأسد، وحوَّل فيه لبنان إلى مزرعة خلفية لنظامه وشبيحته، لكن نداء الحرية في لبنان لم يكتمل، بسبب هيمنة التوجهات الطائفية، ولتضافر جهود النظامين، السوري والإيراني، في خنق الحرية في لبنان، لحساب القاعدة العسكرية التي بنياها باسم حزب الله، فتحول الجنوب اللبناني إلى ما يشبه الدولة الشيعية بقيادة حسن نصر الله، لتصبح السيادة اللبنانية في قبضته، وتحولت ثورة 14 آذار إلى ضحية الرياح الطائفية، ولهيمنة النظامين الإيراني - السوري وتابعهما.
وفي سورية، اعتلى بشار الأسد الرئاسة وريثًا، عمل، في بداية حكمه، على تغطية ذلك بخطابٍ يحمل الوعود في 17 يوليو/ تموز 2000 حاملاً نبرة مختلفة على صعيد احترام الرأي الآخر، فأوَّله الشعب السوري المتلهف للإصلاح على نحو إيجابي. استجاب المثقفون لما أوحاه لهم، فشدّدوا على أن المطلوب اليوم هو فك الحصار عن الشعب، وإزاحة ثقل الأجهزة السرية عنه. وأخرجت مجموعة دينامية من المثقفين السوريين بياناتٍ تطالب بالحرية. وفُتحت أبواب الحوار، فخرجت إلى العلن تباعاً منتديات جديدة في دمشق وغيرها من المدن، شهدت نشاطًا ثقافيًا فوارًا، تبلورت فيه مطالب جماعية تمحورت على إطلاق الحريات السياسية، وحقوق الإنسان والمواطن وسيادة القانون. بدا "الربيع الدمشقي" لكثيرين انقطاعا عن تاريخٍ ظل راكداً أربعين عاماً، تخللته بعض من صرخات الألم ودعوات التغيير. كان الربيع ومضةً هزّت
الركود، وأطلقت الحلم بالحرية الموعودة، فرد الرئيس الوريث على مطلب الحوار الوطني بإعادة إنتاج سيرة أبيه، فسكت الشعب تحت تهديد السجن، إلى أن استيقظ على نداء ثورات الربيع العربي، فردّت السلطة بالوعيد: الأسد أو نحرق البلد!
وقف السوريون بشجاعةٍ في مواجهة الطغمة الحاكمة التي كادت أن تهوي أمام الشعب عام 2012، تقدمت لنجدتها إيران ومليشياتها بحزم، بينما وقف العرب متردّدين كرهًا بالديمقراطية وخوفًا من التنظيمات الإسلامية التي تعالى صوتها، في "داعش" وجبهة النصرة، ثمنًا لتردّدهم، وتردد الغرب معهم. وعلى الرغم من الجبهة الثانية للثورة المضادة التي فتحها "داعش" أمام الثورة، كاد الجيش الحر والكتائب المسلحة أن يهزما النظام وحلفاءه عام 2015، وأن يطردا "داعش" من حلب وإدلب والساحل وحماة. حينها دخلت روسيا في حرب إبادة للسوريين، بدءًا من المستشفيات والأفران، يقذفون حممهم من السماء، وتساندهم المليشيات على الأرض، بينما لم ترض الولايات المتحدة بسوى المليشيا الفاشية الكردية لتشاركها "تحرير" الرقة ودير الزور، فأصبح السوريون تحت نيران القوتين العظميين في العالم، تتقاسمان أرض سورية وسماءها، وتشاركان المليشيا الشيعية في الجنوب، والفاشية الكردية في الشمال، لصنع مصير سورية، أما السوريون فتركوا لهم مؤتمرات جنيف تحت رعاية المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، الذي همه الأساسي أن يعترف السوريون بهزيمتهم أمام النظام وحلفائه الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية، وأيضًا حضور منصة روسيا ومصر مباحثات لا عنوان لها .
أليس هذا فصلاً آخر من تجربة العرب الصعبة في الصعود إلى الحرية؟
دلالات