وهم استقلال "الهيئة"

18 فبراير 2016
+ الخط -
هل تنتمي "الهيئة" إلى الحقل الديني، أم إلى الحقل السياسي؟
ثمة هيئات كثيرة في السعودية، لكن "الهيئة"، بألف لام التعريف، أصبحت تعني مباشرة هيئة واحدة، هي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما يعكس هذا الوهم اللطيف، على مستوى الخطاب الإعلامي السعودي الناقد للهيئة، حول استقلالها ككيان قائمٍ بذاته ومسؤول، لا عن أخطائه وتعدياته فقط، بل عن وجوده أساساً. دور هذا الوهم اللطيف هو فصل "الهيئة" وحمولتها من الأخطاء المتفرّقة والإشكالات الجذرية في وجودها، عن السياسيّ الذي سيحتفظ بثوبه نظيفاً ناصعاً، بينما يتحرّر الناقد في نقده من القيود الرقابية إلى حدٍ بعيد، طالما التزم بإبقاء الموضوع "غير مُسيّس"، وحافظ على خطابه حول "الهيئة"، بوصفها أزمة دينية وحسب، واقعة بالكامل في الحقل الديني وحده. ربما بدأ هذا الوهم كحيلة ناعمة، لتمرير النقد في إعلامٍ مقيّد ومُراقَب سياسياً، لكنها، بمرور الوقت، وتزايد الإشكالات والنقد واكتسابها نمطاً خاصاً، تصلّبت بما يكفي لتتحول إلى أحد الأوهام الثابتة حول "الهيئة" في الخطاب النقديّ الموجّه لها، ثم صار هذا الوهم الـمُحبّب يخدم، بشكلٍ ما، صناعة الصورة الدرامية لـ "الهيئة" في هذا الخطاب، بوصفها رمزاً للطغيان والتّسلط الديني المنفلت من كل عقال. لكن، هل تنتمي "الهيئة" حقاً إلى الحقل الديني، أم إلى الحقل السياسي؟
تنظيمياً، تحوز "الهيئة" امتيازاً خاصاً في البيروقراطية السعودية، يكفل لها الارتباط المباشر بأعلى مرجعية سياسية في البلاد. نظام "الهيئة" صادر بمرسومٍ ملكيّ من مجلس الوزراء، وإليهِ تستند في ممارستها سلطة ضبط الأفراد. الموازنة السنوية لها تُخصصها لها الحكومة بنداً مستقلاً في الموازنة العامة للدولة، وقد تزايدت حصصها في الأعوام الأخيرة، لتتفوق على موازنات بعض الجامعات وهيئات أخرى ومؤسسات ثقافية كثيرة. في الأوقات الحرجة سياسياً، تركّزت رهانات الحكومة على مؤسساتها العسكرية والدينية، ومنها "الهيئة" التي تم دعمها وحدها بمائتي مليون ريال (أضيفت على موازنتها السنوية لذاك العام) في الخطاب الشهير للملك الراحل عبدالله في 18 مارس/آذار 2011. هل يمكن لمؤسسةٍ دينيةٍ تنظم الحكومة عملها، وتموّله بسخاء، وتمنحها صلاحية الضبط التي تكون حكراً على الأجهزة الـشُّرَطية في الدول الأخرى، وتعتمد عليها في الأزمات، وتمتنع عن إجراء أي تغيير جذري في هيكلها وصلاحياتها، هل يمكنها أن تبقى مؤسسةً دينية خالصة، تنتمي إلى الحقل الديني، وأزمتها ذات طبيعة دينية، وحلّها حلاًّ ديني؟ هل من المعقول أن إصلاح وتحجيم مؤسسة كهذه يمكن أن يحدث عبر إصلاح "فكرها الديني"، أو تعيين رجال "مستنيرين" رؤساء لها أو معاقبة بعض أفرادها؟ قد تكون الهيئة "فكرة دينية"، لكنها لم تولد كمؤسسة إلا في الحقل السياسي، وفيه يمكن حلّها كمشكلة.
إجمالاً، "وهم الاستقلال" حالة عامة وعابرة لجميع الحقول في السعودية، وخصوصاً حقول
الإنتاج الثقافي، الإعلام، الجامعات، الفنّ، الدين، جميع الحقول أُسّست بطريقة تجعلها عاجزة عن الاستقلال عن الحكومة. إنها قائمة بفضل تمويلها، وملتزمة بأنظمتها، وخاضعة لرقابتها ووفق شروطها. لكن، في الوقت نفسه، جميع حقول الإنتاج الثقافي تحتاج، بالقدر نفسه، إلى التأكيد على كونها مستقلة عن السلطة السياسية، لأنها تفقد فوراً أية قيمة لمواقفها ورسائلها، إذا ما كانت صدىً مباشراً لتلك السّلطة. أما من يصدّق هذا الاستقلال، فيصدّقه فقط بحسب حاجته إليه. في مثل هذه المناخات، يُنزع البُعد السياسي عن القضايا عموماً في الجدل العامّ حولها في هذه الحقول، حتى عندما تكون قضايا ذات طبيعة سياسية واضحة، فيُصبح تردّي حال بعض الخدمات الأساسية، كالرعاية الصحية والتعليم، موضوعاً إدارياً بحتاً، وتُصبح البطالة قضية اقتصادية صرفة، والجريمة مشكلة ديموغرافية، وجمود الفكر الديني وتخلفه قضية دينية وحسب، ولا يمكن وضع أيّ من هذه القضايا ضمن أفقٍ أعلى يُطرح فيه السؤال عن الرؤى السياسية التي صاغت الشروط التي ينبني عليها كل هذا المشهد. نزع البُعد السياسيّ عن قضايا تقع عملياً في نطاق الحقل السياسي، هوَ أوضح المؤشّرات الخفيّة، على قوة الهيمنة السياسية على الحقول.
هذا الوضع يخلق ظرفاً سعودياً عجائبياً، تتناحر فيه مؤسسات ثقافية مختلفة في الوقت الذي ترجع فيه جميعها إلى المرجع السياسي نفسه، وتلتزم بالشرط السياسي نفسه، وتتبنى الأدلجة السياسية الكبرى نفسها مع اختلافات بسيطة. ومن هنا تنبع تلك الخطابات المضطربة، التي تتهم الطرف الآخر بـ"تكوين لوبي" و"اختراق الدولة"، في الوقت الذي تؤكد فيه أن "الدولة قوية عصيّة على التلاعب وحصينة ضد كل اختراق"! كما أن هذا الوضع يفرض سؤالاً، يبدو أنه سيبقى إلى أمدٍ بعيد: كيف يمكنك أن تعالج مشكلةً ما، إذا كنت، منذ البداية، عاجزاً عن تحديد موقعها الحقيقي؟
@Emanmag

دلالات
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع