07 اغسطس 2024
"جاستا" ومستقبل العلاقات السعودية الأميركية
جاء إقرار قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" (جاستا) بمثابة صدمة لمتابعين كثيرين للعلاقات السعودية الأميركية، فمشروع القانون المطروح على الكونغرس منذ سنوات كان يصعب توقع صدوره، لتبعاته الخطيرة، ولمعارضة الإدارة الأميركية القوية له، كما أنه لم يحظ بنقاش كافٍ في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية، حتى المنشور عنه في وسائل الإعلام الأميركية لا يتناسب بالمرة مع أهميته، وحتى بعد إقراره، ظهرت أصواتٌ من داخل الكونغرس نفسه تؤكد أنها لم تكن على درايةٍ كافية به وتبعاته، وظهرت أيضا أصواتٌ تتحدث عن إمكانية إدخال تعديلات عليه، بعد انتخابات الكونغرس المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ناهيك عن معارضةٍ دوليةٍ واسعة له، بين حلفاء أميركا أنفسهم، كالاتحاد الأوروبي.
ويسمح القانون لأول مرة للمحاكم الأميركية بالنظر في قضايا تتهم فيها دولاً أجنبية، غير مدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية، بمساندة عمليات إرهابية وقعت على الأراضي الأميركية، وقد ارتبط القانون، إعلامياً وسياسياً، باسم المملكة العربية السعودية، وبضحايا أحداث "11 سبتمبر"، ومطالبة أسر الضحايا بمقاضاة المملكة، بسبب ضلوع 15 من مواطنيها في الهجمات. وعلى الرغم من أن التحقيق الذي أجراه الكونغرس في الهجمات وأسبابها، لم يدن المملكة، إلا أن القانون ورعاته حاولوا دائماً إدانة المملكة أمام الرأي العام الأميركي.
وتخشى الإدارة الأميركية من أن ترك الأمر للقضاء قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، كالتوسع في تعريف القانون واستخداماته، ومن ثم تحول القضاء إلى ساحةٍ لصناعة السياسة الخارجية الأميركية، تعرف الدول الراعية للإرهاب، وتطالب بالتحقيق في سياساتها وتعاقبها، كما أنه يخلّ بمبدأ الحصانة السيادية، والذي يحمي الدول من المثول أمام محاكم دول أخرى، وقد يشجّع القانون دولاً مختلفة لتبني قوانين مماثلة، والدعوة لمحاسبة الحكومة الأميركية وحلفائها على أفعالٍ، قام بها ممثلوهم، كالجنود والدبلوماسيون في الخارج.
وقد طرح القانون منذ صدوره سؤالين رئيسيين، أولهما عن تبعاته الفعلية، وما إذا كان سيؤدي إلى محاكمة المملكة أمام القضاء الأميركي، والحكم ضدها بدفع تعويضاتٍ قد تقدّر بمئات الملايين من الدولارات الأميركية؟ وحتى الآن، لا تبدو هناك إجابة واضحة على هذا السؤال، خصوصاً مع وجود أحاديث عن رغبة أعضاء في الكونغرس في إعادة النظر في القانون وتعديله، بعد انتهاء الانتخابات المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني، كما يرى بعضهم أن القانون سيواجه، في حالة تطبيقه، صعوباتٍ كثيرة، مثل العثور على أدلة إدانةٍ، وليس مجرد اتهامات سياسية وإعلامية.
ويتعلق السؤال الثاني بمغزى القانون على العلاقات السعودية الأميركية، والأسباب التي دفعت
الكونغرس إلى إعلانه، وما إذا كان يمثل بداية جديدة ومختلفة للعلاقات السعودية الأميركية، قد تنتهي بعقوبات أميركية هائلة ضد السعودية، في صورة تعويضات لأسر الضحايا؟ وهل يؤشر ذلك ببدء صفحة جديدة من العلاقات الأميركية السعودية تفتح الباب لما هو أسوأ؟ فهناك من يرى أن القانون علامة على تخلي الولايات المتحدة عن السعودية، خصوصاً في ظل خلافاتٍ كثيرة تمر بها العلاقة بين البلدين، بداية من تراجع الاعتماد الأميركي على النفط الخليجي، بعد اكتشاف النفط الصخري، وخلافات البلدين حول الربيع العربي والحرب في سورية واليمن، حيث تشتكي السعودية من عدم حصولها على دعم كافٍ من أميركا في تلك الملفات، ناهيك عن الاتفاق النووي الأميركي الإيراني الذي عارضته المملكة. وبناءً عليه، يرى أصحاب هذا التوجه أن "جاستا" ليس إلا مقدمة لحالة من العداء الأميركي المتزايد نحو المملكة، تتحول فيه الأخيرة سريعاً من حليف إلى خصم مستهدف.
في المقابل، يبدو الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فالولايات المتحدة ما زالت في حاجةٍ للسعودية في ثلاثة ملفات رئيسية على الأقل. الأول هو النفط نفسه، حيث تعد المملكة أكبر مصدّريه عالمياً، وقد لا تحتاج أميركا هذا النفط بعد اكتشافاتها من النفط الصخري، لكنها تبقى في حاجةٍ لتأمين تدفق النفط السعودي والخليجي للأسواق الدولية، حفاظاً على استقرار الاقتصاد العالمي ومصالح حلفائها. الملف الثاني أمني، فأميركا في حاجةٍ لتعاون المملكة في حربها ضد "داعش" والجماعات الدينية المتشدّدة في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الحروب الجارية في سورية والعراق واليمن، حيث تحتاج أميركا للسعودية على مستويات مختلفة، كالتعاون الاستخباراتي والسياسي والأمني.
الملف الثالث هو استقرار الشرق الأوسط، فهناك شبه إجماع سياسي في الولايات المتحدة على أهمية إعادة الاستقرار للشرق الأوسط، حيث يتفق المرشحان الرئاسيان، هيلاري كلينون ودونالد ترامب، ومن خلفهما قيادات الحزبين الرئيسيين، على أهمية الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط، والتعاون مع الأنظمة القائمة، والحيلولة دون انجرار مزيد من دول الشرق الأوسط إلى عدم الاستقرار. وهنا، يعد التحالف مع المملكة أولويةً أميركيةً.
في الوقت نفسه، لا تعني الملفات السابقة أن العلاقات الأميركية السعودية في أفضل أحوالها، فهناك بالفعل تراجع في مستويات تلك العلاقة التي كانت توصف بعد أحداث "11سبتمبر" بالعلاقة "الخاصة"، نظراً للنفوذ الكبير الذي كانت تتمتع به السعودية وممثلوها في واشنطن، ذلك النفوذ الذي وقف ضد موجة النقد الهائلة التي تعرّضت لها السعودية بعد الأحداث.
تقوم العلاقة الأميركية السعودية الخاصة على ركائز مادّية بالأساس، وهي المصالح المشتركة بين البلدين، وفي مقدمتها النفط والأمن والاستقرار، وشرحتها السطور السابقة، لكنها تفتقر لقيم مشتركة، نظراً للاختلاف السياسي والثقافي الواضح بين البلدين، وتفتقر كذلك للوبي شعبي وجماهيري، يدعم المملكة من الداخل الأميركي، حيث تعتمد المملكة بالأساس على ضغوط الشركات الاقتصادية والسياسيين الذي تربطهم علاقات قوية بالمملكة.
ويبدو أن انتهاء الحرب الباردة، وأحدث "11 سبتمبر" واكتشاف النفط الصخري وأحداث
الربيع العربي قادت جميعا الإدارة الأميركية إلى محاولة إعادة تعريف العلاقات السعودية الأميركية، وهي محاولةٌ مستمرة، وتهدف إلى الحد من توغل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإلى تقليل اعتمادها على حلفائها العرب، وظهر هذا التوجه واضحاً خلال حكم الرئيس الأميركي الحالي، باراك أوباما، ويشاركه فيه هيلاري كلينتون ودونالد ترامب.
ويضاف إلى ما سبق صعود ما يمكن تسميته جيلاً جديداً من السياسيين السعوديين والأميركيين، يفتقر للخبرات الوثيقة والمشتركة التي كوّنها الجيل السابق من السياسيين في البلدين. هناك أيضا صعود واضح للتوجهات الشعبوية داخل أروقة الحزب الجمهوري، وهي تحمل عداءً واضحاً لدولٍ بعينها، كالدول العربية بشكل عام، والمملكة بشكل خاص، ولعل صعود تلك القوى يفسّر كثيراً من أسباب تمرير قانون جاستا بهذه الصورة. ولهذه الأسباب مجتمعة، تراجع الحديث عن المصالح الأميركية السعودية المشتركة، وزاد الحديث عن الخلافات السياسية والثقافية التي تفصل البلدين.
وهكذا، تبدو العلاقات السعودية الأميركية وقد دخلت مرحلةً مفتوحة من إعادة التعريف، في ظل التراجع النسبي لأهمية الشرق الأوسط في السياسة الأميركية، وصعود جيل جديد من السياسيين السعوديين ونظرائهم الأميركيين، وكذلك صعود التوجهات الشعبوية المحافظة المعادية للمملكة في الولايات المتحدة. ويعد قانون جاستا بمثابة جرس إنذار مهم بأن مرحلةً من التراجع التدريجي في العلاقة بين البلدين قد بدأت، في ظل غياب رؤية جديدة، لإعادة البناء على أسسٍ مختلفة من الطرفين، وإن بقيت العلاقات السعودية الأميركية قويةً في المستقبل المنظور، نظراً لارتكازها على أكثر من مصلحة استراتيجية مهمة، كالنفط والأمن والاستقرار الإقليمي.
ويسمح القانون لأول مرة للمحاكم الأميركية بالنظر في قضايا تتهم فيها دولاً أجنبية، غير مدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية، بمساندة عمليات إرهابية وقعت على الأراضي الأميركية، وقد ارتبط القانون، إعلامياً وسياسياً، باسم المملكة العربية السعودية، وبضحايا أحداث "11 سبتمبر"، ومطالبة أسر الضحايا بمقاضاة المملكة، بسبب ضلوع 15 من مواطنيها في الهجمات. وعلى الرغم من أن التحقيق الذي أجراه الكونغرس في الهجمات وأسبابها، لم يدن المملكة، إلا أن القانون ورعاته حاولوا دائماً إدانة المملكة أمام الرأي العام الأميركي.
وتخشى الإدارة الأميركية من أن ترك الأمر للقضاء قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، كالتوسع في تعريف القانون واستخداماته، ومن ثم تحول القضاء إلى ساحةٍ لصناعة السياسة الخارجية الأميركية، تعرف الدول الراعية للإرهاب، وتطالب بالتحقيق في سياساتها وتعاقبها، كما أنه يخلّ بمبدأ الحصانة السيادية، والذي يحمي الدول من المثول أمام محاكم دول أخرى، وقد يشجّع القانون دولاً مختلفة لتبني قوانين مماثلة، والدعوة لمحاسبة الحكومة الأميركية وحلفائها على أفعالٍ، قام بها ممثلوهم، كالجنود والدبلوماسيون في الخارج.
وقد طرح القانون منذ صدوره سؤالين رئيسيين، أولهما عن تبعاته الفعلية، وما إذا كان سيؤدي إلى محاكمة المملكة أمام القضاء الأميركي، والحكم ضدها بدفع تعويضاتٍ قد تقدّر بمئات الملايين من الدولارات الأميركية؟ وحتى الآن، لا تبدو هناك إجابة واضحة على هذا السؤال، خصوصاً مع وجود أحاديث عن رغبة أعضاء في الكونغرس في إعادة النظر في القانون وتعديله، بعد انتهاء الانتخابات المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني، كما يرى بعضهم أن القانون سيواجه، في حالة تطبيقه، صعوباتٍ كثيرة، مثل العثور على أدلة إدانةٍ، وليس مجرد اتهامات سياسية وإعلامية.
ويتعلق السؤال الثاني بمغزى القانون على العلاقات السعودية الأميركية، والأسباب التي دفعت
في المقابل، يبدو الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فالولايات المتحدة ما زالت في حاجةٍ للسعودية في ثلاثة ملفات رئيسية على الأقل. الأول هو النفط نفسه، حيث تعد المملكة أكبر مصدّريه عالمياً، وقد لا تحتاج أميركا هذا النفط بعد اكتشافاتها من النفط الصخري، لكنها تبقى في حاجةٍ لتأمين تدفق النفط السعودي والخليجي للأسواق الدولية، حفاظاً على استقرار الاقتصاد العالمي ومصالح حلفائها. الملف الثاني أمني، فأميركا في حاجةٍ لتعاون المملكة في حربها ضد "داعش" والجماعات الدينية المتشدّدة في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الحروب الجارية في سورية والعراق واليمن، حيث تحتاج أميركا للسعودية على مستويات مختلفة، كالتعاون الاستخباراتي والسياسي والأمني.
الملف الثالث هو استقرار الشرق الأوسط، فهناك شبه إجماع سياسي في الولايات المتحدة على أهمية إعادة الاستقرار للشرق الأوسط، حيث يتفق المرشحان الرئاسيان، هيلاري كلينون ودونالد ترامب، ومن خلفهما قيادات الحزبين الرئيسيين، على أهمية الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط، والتعاون مع الأنظمة القائمة، والحيلولة دون انجرار مزيد من دول الشرق الأوسط إلى عدم الاستقرار. وهنا، يعد التحالف مع المملكة أولويةً أميركيةً.
في الوقت نفسه، لا تعني الملفات السابقة أن العلاقات الأميركية السعودية في أفضل أحوالها، فهناك بالفعل تراجع في مستويات تلك العلاقة التي كانت توصف بعد أحداث "11سبتمبر" بالعلاقة "الخاصة"، نظراً للنفوذ الكبير الذي كانت تتمتع به السعودية وممثلوها في واشنطن، ذلك النفوذ الذي وقف ضد موجة النقد الهائلة التي تعرّضت لها السعودية بعد الأحداث.
تقوم العلاقة الأميركية السعودية الخاصة على ركائز مادّية بالأساس، وهي المصالح المشتركة بين البلدين، وفي مقدمتها النفط والأمن والاستقرار، وشرحتها السطور السابقة، لكنها تفتقر لقيم مشتركة، نظراً للاختلاف السياسي والثقافي الواضح بين البلدين، وتفتقر كذلك للوبي شعبي وجماهيري، يدعم المملكة من الداخل الأميركي، حيث تعتمد المملكة بالأساس على ضغوط الشركات الاقتصادية والسياسيين الذي تربطهم علاقات قوية بالمملكة.
ويبدو أن انتهاء الحرب الباردة، وأحدث "11 سبتمبر" واكتشاف النفط الصخري وأحداث
ويضاف إلى ما سبق صعود ما يمكن تسميته جيلاً جديداً من السياسيين السعوديين والأميركيين، يفتقر للخبرات الوثيقة والمشتركة التي كوّنها الجيل السابق من السياسيين في البلدين. هناك أيضا صعود واضح للتوجهات الشعبوية داخل أروقة الحزب الجمهوري، وهي تحمل عداءً واضحاً لدولٍ بعينها، كالدول العربية بشكل عام، والمملكة بشكل خاص، ولعل صعود تلك القوى يفسّر كثيراً من أسباب تمرير قانون جاستا بهذه الصورة. ولهذه الأسباب مجتمعة، تراجع الحديث عن المصالح الأميركية السعودية المشتركة، وزاد الحديث عن الخلافات السياسية والثقافية التي تفصل البلدين.
وهكذا، تبدو العلاقات السعودية الأميركية وقد دخلت مرحلةً مفتوحة من إعادة التعريف، في ظل التراجع النسبي لأهمية الشرق الأوسط في السياسة الأميركية، وصعود جيل جديد من السياسيين السعوديين ونظرائهم الأميركيين، وكذلك صعود التوجهات الشعبوية المحافظة المعادية للمملكة في الولايات المتحدة. ويعد قانون جاستا بمثابة جرس إنذار مهم بأن مرحلةً من التراجع التدريجي في العلاقة بين البلدين قد بدأت، في ظل غياب رؤية جديدة، لإعادة البناء على أسسٍ مختلفة من الطرفين، وإن بقيت العلاقات السعودية الأميركية قويةً في المستقبل المنظور، نظراً لارتكازها على أكثر من مصلحة استراتيجية مهمة، كالنفط والأمن والاستقرار الإقليمي.