اليسار المغربي من المواجهة إلى المشاركة

13 سبتمبر 2015
+ الخط -
اقترنت المواعيد الانتخابية المحلية والتشريعية في المغرب، لدى أحزاب اليسار، وعلى امتداد عقود، بتزوير الإرادة الشعبية والفساد وشراء الذمم وفبركة المشهد الحزبي، وهندسة الحقل السياسي وفق ما كانت تسعى إليه السلطة. وهذا ما جعل أحزاباً تتمسك بموقف المقاطعة، وكرسته، عدة سنوات، خياراً سياسياً وقناعة إيديولوجية، تحملت بسببه القمع والاعتقالات ومختلف أشكال التضييق. ولم تتردد بعض مكونات اليسار الراديكالي في وصف الأحزاب اليسارية التي شاركت في مختلف الاستشارات الشعبية بالقوى الإصلاحية، في إشارة إلى حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقاً). 

طبعت هذه النبرة الراديكالية سلوك اليسار وخطابه عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي شهدت سنوات حكمه صداماً قوياً معها، ولم تستثن، في ذلك، حتى الأحزاب التي انتقلت إلى استراتيجية النضال الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، غير أن متغيرات الساحة السياسية الوطنية والدولية، وتولي الملك محمد السادس زمام الأمور بعد رحيل والده عام 1999، واعتماده أسلوب حكم مغاير ومفهوماً جديداً للسلطة، وانخراطه في مشروع حقوقي غير مسبوق في المنطقة العربية والإسلامية عبر إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004، في مرحلة دقيقة ومهمة في سيرورة التطور الذي عرفه المغرب، وهي هيئة جاءت نتيجة التطور التدريجي الصعب والمركب في حل المشكلات والملفات المرتبطة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، واعتبرت آلية للعدالة الانتقالية، لطي صفحات ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب منذ استقلاله حتى 1999. هذه المستجدات والمعطيات أفرزت حقائق جديدة على الأرض، حدّت من مساحة الشكوك التي
غذتها أحزاب اليسار تجاه سياسات الدولة واختياراتها، وقد بدأت هذه الأحزاب تقتنع، تدريجياً، بضرورة تطليق مواقف الأمس، والمراهنة على خيار المشاركة في الانتخابات بدل مقاطعتها، باعتبارها آلية لا محيد عنها، لتعزيز الديمقراطية وتقوية دولة المؤسسات.
وفي خطوة تحمل دلالة سياسية وأخلاقية، قرّرت ثلاثة أحزاب، الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الاتحادي، خوض الانتخابات المحلية والجهوية التي نظمت في المغرب في 4 سبتمبر/أيلول الجاري، بلوائح موحدة في إطار تحالفٍ، حمل اسم فيدرالية اليسار الديمقراطي، وحصلت على 333 مقعداً (1.06%)، وتمكنت من احتلال المرتبة الثانية في مقاطعة أكدال-الرياض في الرباط، بتسعة مقاعد خلف حزب العدالة والتنمية.
وبصرف النظر عن قيمة النتائج التي عادت إلى فيدرالية اليسار الديمقراطي وحجمها، حيث تدل الأرقام على أن قوتها الانتخابية غير ذات وزن كبير، وأن انتشارها الجغرافي وتجذرها الاجتماعي محدودان، مقارنة مع ما ترفعه من شعارات وخطابات وما تغذيه من أحلام، فإنها، من الناحية الرمزية، وجهت رسالة سياسية وأخلاقية إلى السلطة والكتلة الناخبة، لتؤكد على انخراطها البيّن في مسلسل البناء الديمقراطي، وانضباطها لمقتضيات النبل السياسي، خصوصاً أنها قادت حملة انتخابية نظيفة، بشهادة تقارير المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب.
وتجمع معظم القراءات والتحاليل على أنه، من خلال استنطاق الحصيلة التي خرجت بها مكونات فدرالية اليسار الديمقراطي، هناك سلسلة من العمليات، يتعيّن على الفدرالية الإقدام عليها، عمودياً وأفقياً، بما في ذلك إعادة النظر في كيفية التعاطي مع المكون الديني، والقيام بمراجعات فكرية وإيديولوجية، والتفكير في طرائق بديلة للتواصل، ومعايير براغماتية لخوض المعارك الانتخابية، من دون التفريط في منسوب القناعات والأخلاق السياسية الذي يسهم في رفع أسهم مصداقيتها في بورصة العمل السياسي والتأطير الحزبي، وفي نهاية الكليشيهات الإيديولوجية الكبرى، ما يطرح إعادة التفكير في مكانة السياسي داخل المجتمع.
أن تكون واقعياً في السياسة لا يعني أن تكون محافظاً أو رجعياً، كما يقول الفيلسوف كلمونت روسيت، لأن ما ينبغي القيام به ينطلق مما هو واقعي، وليس انطلاقا من تصور وهمي لعالم مطلق وخالص، وهذا هو المدخل الطبيعي إذا أردنا الظفر بحظوظ إنتاج تحسينات وتغييرات للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
كل تحدي اليسار يكمن هنا. أكيد أن اليسار الذي سكنته تاريخيا رغبة قوية في تغيير العالم، وجد نفسه دائماً في مواجهة مقاومات، وحيثما وجدت الإرادات لا يعني وجود طرق سالكة، هذا إذا لم تفض إلى الهلاك.
كان اليسار، في تاريخه وفي مدرسة الواقع والوقائع، يتوجس من السلطة ويخافها. وحان الوقت ليقيم اليسار علاقة أكثر نضجاً مع الفعل السياسي، ولن يحقق ذلك، إذا لم يجبر على ممارسة سياسة الحقيقة، لأن السياسة الحقيقية هي سياسة الحقيقة. كما كان يردد دائما المعارض اليساري المغربي المختطف في 1965، المهدي بن بركة، لأنه سيتعلم أكثر، في هذه الحالة، من تجربة منتخبيه المحليين وبرلمانييه.
من المسلم به أن مواجهة تناقضات الواقع وتبايناته تنسف اليقينيات، فالعالم والحياة بشكل عام غاية في التعقيد، ولا يمكن أن نركن إلى اختزالات العقل وتطميناته، فالفعل البشري لم يكن دائماً مطبوعا بالكمال، وهذا هو الدافع الجوهري والأداة الأساسية لتحقيق نتائج، وإعطاء معنى وجداني لمفهوم السلطة. يقول ألبير كامي "أخاف من الذين تتجاوز أقوالهم أفعالهم بمسافة طويلة. إنها مسألة أخلاقية". ولهذا، انتصر رموز اليسار التاريخيين والواقعيين للأخلاقي على البطولي والملحمي.
في التجارب الديمقراطية العريقة، تعمد الأحزاب التاريخية ذات القواعد العريضة والمتماسكة
إلى تحويل الهزائم إلى مناسبات لاستخلاص العبر، وإجراء تعديلات جوهرية على استراتيجياتها وتكتيكاتها. ولهذا، يعتبر جزء من نشطاء فيدرالية اليسار الديمقراطي، وبجرعة واقعية من الحماس، أن انكسار اليسار في المغرب يجب أن يوضع خلف قادته، وعلى هؤلاء أن يحوّلوا هذا الانكسار، حتى لا نقول الاندحار، إلى رافعة تمكّن من تغيير طريقة اشتغال الديمقراطية الداخلية، وعلاقة اليسار بالمغاربة.
فقدان المصداقية هو نتيجة الضعف، وهو أيضا عقابٌ للديماغوجية. ووعودٌ كثيرة لم تلتزم بها أغلبيات تعاقبت على تدبير الشأن المحلي والوطني. وهنا دور اليسار الأخلاقي، ومسؤوليته الخاصة في تحويل العالم وتغيير حياة الناس، علما أنه دائما كان يصطدم بمقاومة متعددة المصادر.
مؤكد أن المجتمعات المعاصرة معقدة جداً، ما يطرح صعوبة أمام تعميمات الخطاب السياسي. وتنوع المطالب الاجتماعية عادة ما يربك ثنائية يسار– يمين، ومواطنون كثيرون يعتبرون أن هذه الثنائية متجاوزة، ولم تعد تنطوي على أهمية كبيرة، كما أن التحولات الاجتماعية عميقة ومتسارعة وصادمة أحياناً ومتعددة، ولا يمكن أن تكون الإرادية السياسية ناجعة في هذه الحال. كما أن التطورات، مثل تحسين المساواة بين الرجل والمرأة والتقدم التكنولوجي وثورة الإنترنت، غيرت كثيراً وعميقاً المجتمعات أكثر من البرامج السياسية.
يسلم علماء السياسة أن العامل السياسي حاضر في كل شيء، وبشكل مضطرد، فهو ينشط المجتمع، ويتجلى في كل أبعاد الحياة الاجتماعية. وتنشيط المجتمع يعني إضاءة وتوجيه فاعليه للإجابة عن التحديات التي يطرحها العصر، مثل آفة البطالة والحفاظ على البيئة وتمويل الضمان الاجتماعي والتعليم والصحة وجودة الخدمات الإدارية والتنشئة الثقافية والإعلامية.
ليس هناك برنامج سياسي شامل يملك مفاتيح حل جميع المشكلات يمكن فرضه على كل المواطنين. هذا يعني تقوية الديمقراطية التمثيلية، من خلال المؤسسات العمومية والأحزاب السياسية، وعبر تفضيل ثقافة التوافق على ثقافة المواجهة.