إنتاج الإرهاب لمواجهته

إنتاج الإرهاب لمواجهته

21 ديسمبر 2015
+ الخط -
مع حلول ذكرى بدايات الربيع العربي من تونس، يبدو أن الدول الكبرى أقلعت عن دعم الديمقراطية، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصائرها. وراحت تحرّك أساطيلها نحو سواحل المنطقة، وتطلق طائراتها في سماوات دول الربيع العربي، بغرض تطويق النتائج السلبية "الإرهابية" التي نجمت عن تحول الثورات والاحتجاجات إلى مواجهات مسلحة، جذبت آلافاً من "الإرهابيين". ودفعت عشرات آلاف المدنيين إلى النزوح، أو اللجوء، هرباً من تلك المواجهات والحروب. بالإضافة إلى آلاف آخرين، لا تعاني بلدانهم حروباً مسلحة، ولم تنهر الدولة فيها، لكنها فاشلة بما يكفي لدفع هؤلاء إلى الهجرة غير المشروعة، بحثاً عن حد أدنى من متطلبات الحياة الآدمية. حتى هؤلاء، اتخذت دول أوروبية قراراً بتشكيل قوة عسكرية بحرية، للحد من تدفقهم إليها عبر مياه المتوسط.
كان على الدول الكبرى أن تتقصّى جذور ودوافع هذه التداعيات السلبية التي تثير هواجسها الأمنية، وأن تبحث عن المسببات لدى نظم الحكم والمؤسسات الرسمية والنخب في دول المنطقة، فتلك الدوائر وثيقة الصلة بالقوى الكبرى، منذ عقود، هي نفسها التي تدير الأمور وتضع السياسات وتنفذها على شعوبها طوال تلك العقود. من ثم كان المفترض مواجهة المسؤولين عن تلك الإخفاقات بفشلهم، بل ومحاسبتهم عليه. والمعني، هنا، ليس فقط الدوائر الرسمية من مؤسسات الحكم وإدارة الدولة، لكن أيضاً النخب السياسية ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني، ولهؤلاء جميعاً تواصل مستمر وقنوات اتصال وتأثير في الغرب، يتجاوز أحياناً الحكومات. لكن ما جرى في السنوات الخمس الماضية، وما زال، يؤكد أن العالم لم يتعلم من أخطائه الشرق أوسطية. وبدلاً من أن يساند الشعوب المنتفضة بشكل عملي وفعال، يتابع صامتاً بطش النظم بها. وحين يضطر المدنيون المسالمون إلى الدفاع عن أنفسهم، في مواجهة البراميل المتفجرة، أو القتل الجماعي، أو التعذيب، تسكت القوى الكبرى عما تلصقه بهم النظم من اتهامات بالعمالة والخيانة والإرهاب. وحين يعجز البطش الداخلي عن إنهاء "التمرد"، وحسم الحرب على "الإرهاب"، تتحرك الأساطيل والطائرات الأجنبية لإكمال المهمة. قد يقول قائل إن الطائرات والأساطيل والحشود ضرورية لمواجهة "داعش" الذي يتخذ العنف منهجاً من اللحظة الأولى. وهذا غير صحيح، فحتى الآن "داعش" لم يمسسه سوء. بل إن القصة الكاملة لظهور وتنامي "داعش" وأشباهه نسخة محدثة من قصة "القاعدة" قبلاً.
لم تسعَ الدول المعنية بمواجهة "داعش"، أو غيره من التنظيمات الإسلامية المتهمة بالإرهاب، إلى إقامة حوارات أو قنوات تواصل مع تلك التنظيمات في بداياتها. وركّزت بدلاً من ذلك على اختراقها أمنياً بزرع عملاء، أو اختلاق تنظيمات موازية. ثم لم تقم تلك الدول التي تباشر حالياً عمليات عسكرية ضد تلك التنظيمات، بجهود حقيقية، لتجفيف منابعها بملاحقة مصادر التمويل، وغلق منافذ التسليح ومعابره وتضييق سبل انضمام الأفراد إليها. وهذا كله يثير شكوكاً قوية حول حقيقة تلك التنظيمات ومن يقف وراءها.
أما عن تداعيات "الربيع العربي"، فبدلاً من تصحيح أخطاء ما قبل الثورات، تعيد تلك النظم إنتاج أسوأ ما فيها. وتكّرر الدول الكبرى بدورها سوء تقديراتها ومواقفها. فالمواجهة المطلوبة ليست مع القوى الساعية إلى التغيير، ولا مع التحركات الشعبية التي قوبلت بالرصاص من اللحظة الأولى. وإنما مع حكوماتٍ هي المسؤول الأول عن ظهور "داعش"، وما ستعقبه من تنظيمات. وبدلاً من تلبية مطالب الشعوب وإدراك حتمية التغيير، أمعنت في استخدام أدواتها السلطوية بحق أجيال جديدة وشرائح مجتمعية غير تقليدية، فكان الصدام وكانت الفوضى. فليحاسَب المسؤولون عن الأسباب، قبل مساءلة الشعوب التي طالما تحملت نتائج الفشل والفساد والإفساد.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.