لا عزاء لجنوب السودان... بؤس واتفاق شائك

20 نوفمبر 2015

سلفاكير: الخصومة مع "رفاق الكفاح" والصداقة مع إسرائيل (18آذار/2015/Getty)

+ الخط -
فاجعة الحرب الأهلية، في جمهورية جنوب السودان، كانت سبباً في تشريد نحو مليوني وربع المليون إنسان، لجأ منهم نحو 800 ألف إلى دول الجوار، واختبأ عشرات الألوف في مستنقعات، حقنتهم بالأمراض، وواجه الأطفال فيها جوعاً ونقصاً حاداً في الغذاء. أصبح الفارّون من النيران، في معمعان هذه الحرب، يستجدون الإغاثة، فيما يواجه ربع مليون طفل جنوب سوداني، خطر الموت جوعاً.
حيال هذا البؤس المقيم، ليس ثمة من يعتقد أن قلوب الساسة الذين اختصموا سترقّ لحال شعبهم. المتفائلون وحدهم يراهنون على اتفاق أبرم في أغسطس/آب الماضي. لكن هؤلاء يتساءلون: هل يتعاون المتخاصمون، لإعادة الأمور إلى السلم والوئام الاجتماعي، توطئة للذهاب إلى انتخابات برلمانية ورئاسية حرة، في غضون 30 شهراً؟ أم ستكون هذه الفجوة الزمنية الواسعة، وما يسكن المشهد قبلها وفي أثنائها، من حساسيات وشكوك، وبغضاء قبلية، وأطماع في البترول؛ ستكون أكثر من كافية، لإعادة الأمور إلى الوراء، والإبقاء على معاناة الناس؟
انهارت سبعة اتفاقات قبل هذا الأخير، ولم يكن ثمة عزاء لشعب جنوب السودان. هذه المرّة، يمكن التعويل على إشارات وخطوات جدية، لعل من أهمها توقف المعارك، على الرغم من انتهاكات متكررة لاتفاق وقف النار، وانسحاب قوات الحكومة التابعة للرئيس سلفاكير ميارديت، من العاصمة، لتحويلها إلى منطقة منزوعة السلاح، وإعادة التموضع على مسافة 25 كيلومتراً خارج جوبا، مع انسحاب معظم القوات الأوغندية منها، فقد تدخل الأوغنديون بقواتهم، لحماية الجيش الحكومي. غير أن السؤال المقلق، كيف سيعود ريك ماشار، نائب الرئيس، وخصم سلفاكير، أو عدوه اللدود؛ إلى العاصمة جوبا، ويمارس مهامه نائباً للرئيس، مثلما وعد، بعد شهر من الآن؟
يأمل السودانيون الجنوبيون أن تنجح الضغوط، مع الضمانات، في تكريس اتفاق شائك بطبيعته. فكبير الوسطاء، وزير الخارجية الإثيوبي، سيوم ماسفين، يقول إن العمل على إنجاز الترتيبات الأمنية يجري على قدم وساق، ويتوافق على تفصيلاتها المتخاصمون (الحكومة والمتمردون عليها، والمعتقلون السابقون من أعضاء المكتب السياسي للحركة الشعبية، ووزراء سابقون يمثلون الأطياف القبلية). فالوجهة، الآن، نحو تشكيل حكومة انتقالية في غضون تسعين يوماً، يظل في أثنائها سلفاكير رئيساً، ومشار نائباً أول له. ربما يكون تنفيذ الاتفاق على إعادة مؤسسة الرئاسة إلى حالها، قبل اندلاع الحرب، أسهل بكثير من تشكيل الحكومة، في ضوء بنود في الاتفاق، تقضي بأن يقتسم المتخاصمون المناصب الوزارية والولائية، علماً أن الرئيس كير ونائبه مشار اعترضا على بنود من الاتفاق، ورضخا تلافياً للضغوط، فالرجلان انعدمت الثقة بينهما، ولا يختلف اثنان على أن من الصعب أن يعملا، في الفترة الانتقالية، طاقماً رئاسياً منسجماً، أو أن يقبل واحدهما بنتائج الانتخابات، في حال خسارته لها.
في هذه الأثناء، يؤكد تقرير للأمم المتحدة أن الطرفين يكدّسان السلاح. وفي خلفية الصورة،
بدت جلية عناصر التفجير من جديد، فالرئيس سلفاكير قرر تقسيم البلاد إلى 28 ولاية، بدلاً عن عشرة، بغرض جعل المناطق المنتجة للبترول في أيدي قبائل الدينكا التي ينتمي إليها، بعد أن كانت تابعة لولايات جونقلي والوحدة وأعالي النيل التي تُعد قبائل النوير التي ينتمي إليها مشار أغلبية فيها. والبترول هو عصب الحياة الاقتصادية لجمهورية جنوب السودان، ويوفر 90% من موازنة الدولة. وهذا وحده كفيل بتدمير الاتفاق، ناهيك عن أن التقسيم الجديد الذي يريده سلفاكير يكرّس التباعد بين مكونات شعب جنوب السودان، بتخصيص ولايات منفصلة للقبائل.
اللافت في مآلات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي أسسها جون قرنق، وورثها سلفاكير؛ أن مشروع الاستقلال الذي حمله هؤلاء، ونجحوا في تحقيقه، كان ينظر إلى وضع شعب الجنوب، على اعتباره مضطهداً من حكومة الخرطوم. وقال سلفاكير نفسه إن "حركة التحرر" أو "النضال" الذي يخوضه، هو وجماعته، من أجل الاستقلال، هو الضامن لأن يحظى المواطن السوداني في الجنوب بحال أفضل "وأن يصبح مواطناً أول، بدل أن يكون مواطناً من الدرجة الثانية في دولة السودان الموحد"، حسب تعبيره. لكن الذي جرى أن تدرّجات التصنيف استطالت نزولاً، في دولة جنوب السودان التي تأسست بشفاعة حساسية "الحركة الشعبية" من وضعية الشعب في الدرجة الثانية. وليت أعداء سلفاكير حصلوا على المرتبة الثانية، بدل الرغبة في إبقاء بؤسهم وسحقهم.
كان سلفاكير نائباً للرئيس في السودان الموحد، وأصبح بنتائج الانتخابات السودانية العامة (2010) نائباً أول للرئيس، لكنه فضل أن يكون رئيساً في دولة الجنوب، وهكذا كان في العام التالي. تقمص في خطابه الافتتاحي، رئيساً، ثوب الإنسانية والخُلق الجميل، فهتف في أتباعه: "نسامح ولا ننسى". من سمعوه لم يهفُ، في خاطرهم، أنه، بعد قليل وقت، سيفعل في شعبه الجنوبي، في فترة وجيزة، أضعاف ما فعلته الحكومات السودانية المتعاقبة، قبل أن تتوصل الخرطوم إلى اتفاق سلام وتنمية مع "الحركة الشعبية". ولم تمض على خطابه سوى أسابيع قليلة، حتى أطلق تحذيراً في وجهةٍ أخرى، تشي باحتمالات فشل الدولة. تحدث عن جرائم اغتصاب، وتعذيب، وانتهاكات فظّة لحقوق الإنسان، تقترفها عناصر مسلحة من الجنوب، وفي الجنوب. ولم يمض عام، حتى سجل محاولته الحمقاء، للاستيلاء على هيغليغ، الغنية بالنفط في جنوب كردفان التابعة للسودان. ولما شنّ الجيش السوداني هجوماً لاستعادتها، كان الجسر الجوي الإسرائيلي ينقل المعدات والذخائر لقوات سلفاكير. ولم يمض عام آخر بعدها، حتى اختصم الرجل مع "رفاق الكفاح" للتحرّر من الخرطوم، وانقضّ عليهم، يعزلهم ويتهمهم بالفساد، ثم يعلق أعمال الحكومة.
بعد هزيمته في هيغليغ، كان تعبيره عن الامتنان لإسرائيل قبيحاً وغير مسبوق. زار تل أبيب، وأعرب عن رغبته في أن تكون دولة جنوب السودان الأولى التي تفتتح سفارة لها في القدس. ظن أن تل أبيب والولايات المتحدة ستتخذان منه حليفاً، غير أنه وجد نفسه، بعد أن انفجر مشروعه من داخله، مضطراً لأن ينحو باللائمة على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية و"المجتمع الدولي"، متهماً الجميع بمناصرة أعدائه في الداخل، وتوفير الملجأ لمن يقاتلونه.