المواطنون السوريون: منبطحاً

11 يناير 2015
+ الخط -

لا يغيب عن ذاكرتي مشهدٌ من مسرحية هزلية قَدَّمّتْها، ذاتَ يوم، فرقةُ المهندسين المتحدين التي يديرُها الفنان المسرحي الحلبي، هُمَام حُوت، وتجري أحداثُها في صالة الانتظار في مطار حلب الدولي.
في المشهد: الركاب السوريون المنتظرون يعانون من ضيق المكان، وسوء المعاملة، وتأخير الرحلات على الخطوط الجوية السورية. وثمة، فوق هذا كله، عنصر مخابرات لئيم ينظر إليهم شزراً، يوبخهم، يسب أمهاتهم، ثم، فجأة، يصيح كما لو أنه قائد عسكري: ركاب السورية منبطحاً!
يلخص هذا المشهدُ؛ في الحقيقة، مجملَ الواقع الاجتماعي السوري الذي ساد في ظل انقلاب الحركة التصحيحية الذي أتى بالجنرال، حافظ الأسد، إلى السلطة. فكل ما كان يطفو على سطح الحياة اليومية يبدو وكأنه يَطْلُبُ من المواطنين السوريين الغلبانين أن يأخذوا الأرض منبطحاً!
الأفرعُ الأمنية المنتشرة في المحافظات السورية ما تَني تُطْلِقُ، صباحَ كل يوم، مجموعةً من العناصر ذوي الرتب الصغيرة في شوارع المدينة، كما لو أنها تستجيب لنداء "الشيخ إمام" التهكمي (أطلقْ كلابَك في الشوارع). وهؤلاء يذهبون إلى المؤسسات والشركات والدوائر الحكومية، كلٌّ بحسب مهمته، وهناك يبدأون أعمالهم بالتحكم، والهيمنة، والتسلط، والاستغلال، والابتزاز. وفي آخر النهار، توضع غلالُهم أمام الضباط الكبار، ليأخذ كلٌّ منهم حصتَهُ بحسب موقعه، ورتبته، وتراتبيته، ويجري هذا كله تحت إشراف "المعلم"، رئيس الفرع.
في صيف سنة 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي بيروت، دُعينا، نحن مجموعة من الخريجين الجامعيين، إلى الخدمة الاحتياطية في حمص، أمضينا فيها بضعة أسابيع، ثم نقلونا إلى الجبهة الجنوبية، ثم إلى الجبهة الشمالية.
كانت دعوة عبثية إلى أبعد الحدود، فقد بلغ ما أمضيناه في الأماكن الثلاثة حوالي خمسة أشهر، ونحن نأكل ونشرب وننام، من دون أن نستلم سلاحاً، أو آليات عسكرية، أو نتدرب على أسلحة جديدة. وبين حين وآخر، كان أحد الضباط ينتبه لكوننا متجمعين في مكان توزيع الأطعمة، أو عند الحمامات، فيصيح بنا: انتبه. استاعِدّ! فإذا تلكأ بعضُنا بالتنفيذ سرعان ما يغضب ويصيح: منبطحاً. فننبطح، ويعاقبنا بإجراء تمارين شاقة، ثم يتركنا ويمضي. 
خلال هذا الزمن الطويل، لم يكن لدينا شيء نفعله غير شرب المتة، وتدخين السجائر، وتبادل الحكايات الواقعية، وخصوصاً التي تتعلق بنهج التقنين الذي فرضه حافظ الأسد على الناس، بغية تجويعهم وإذلالهم وجعلهم يلهثون وراء حاجياتهم اليومية.
حكى لنا أحد الزملاء عن مائة شخص تقريباً كانوا يقفون في طابور طويل أمام المؤسسة العامة الاستهلاكية، في إحدى المدن، منتظرين أن يحصلوا على مخصصاتهم من الرز والسكر والشاي، والموظف في الداخل يتظاهر بأنه يراجع حساباته ودفاتره ومبيعاته السابقة، إلى أن انقضى الدوام، فخرج إليهم ليقول: اليوم نفقنا البضاعة. تعالوا بكرة!
ومرة، وبينما نحن جالسون في المهجع، نتبادل حكاياتنا، إذ أخرج زميلُنا، سامر الحلبي، قطعة نقدية من فئة خمسين ليرة، وهي في حالة يرثى لها، ممزقة، ومجعوكة، وقسم منها مفقود، وقال إنه خسر قيمتها لأنها غير قابلة للصرف.
ارتسمت ابتسامة إشفاق على وجه زميلنا، عادل اللاذقاني، وقال له:
- أنا آخذها منك، وأعطيك مكانها واحدة جديدة.
دهشنا، جميعاً، من سلوك عادل، ولا سيما أنه أعطاه بدلاً عنها قطعة جديدة، وسألنا عما هو فاعل بها فقال:
- حينما نسافر بين اللاذقية وحمص، يكون بيننا، عادةً، ضباط وصف ضباط وعساكر متطوعون ومجندون، وقد اعتدنا أن ندفع للسائقين كل أنواع العملة التالفة، فيأخذونها صاغرين، لأن العساكر، حينما يقول معاون الباص (هذه القطعة غير قابلة للصرف)، يبطحونه أرضاً، ويضربونه كما تضرب البغال، ويصيحون به:
- أيش تقول ولاه حيوان؟ تقول إن عملة سورية الأسد غير قابلة للصرف؟
فيأخذها ويعتذر. ولعل هذه من أهم فوائد الانبطاح.
 

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...