هل فُتح الباب أمام الإصلاح النقابيّ في الأردن؟

هل فُتح الباب أمام الإصلاح النقابيّ في الأردن؟

10 مايو 2024

أردنيون في مسيرة في عمّان في يوم عيد العمال (1/5/2015 الأناضول)

+ الخط -

على أبواب احتفال عمّال الأردن بمرور 70 عاماً على تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمّال، المنظّمة الجماهيرية الأكبر في الأردن (أُسّست 1954)، فَجَّر قرار المُدّعي العام الأردني، في العاشر من مارس/ آذار الماضي، كفّ يد مازن المعايطة (77 عاماً) عن رئاسة الاتحاد العام للنقابات العمّالية، وعن رئاسة النقابة العامة للعاملين في التعليم الخاص، مفاجأة، بل قل صدمة في الأوساط النقابية والسياسية، بالنظر إلى الحظوة الاستثنائية التي تمتّع بها، وهو رئيس للاتحاد العمّالي مدّة تنوف على عقدين ونصف العقد.
لم يقتصر قرار المُدّعي العام على كفّ يد النقابي المخضرم عن مواقعه القيادية المذكورة، وإنّما تضمّن، أيضاً، الحجز على أمواله المنقولة وغير المنقولة، ومنعه من السفر بانتظار مثوله أمام المحكمة. وقد حالت حالته الصحية دون الأمر بتوقيفه، أسوة بابنه الأصغر؛ همام، الذي كُفّتْ يده أيضاً عن قيادة النقابة العامة لعمّال أمانة العاصمة والبلديات.
استند قرار المُدّعي العام إلى عمليات تدقيق حسابات قامت بها هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، والتي توصّلت إلى وجود "تجاوزات" مالية بلغت أربعة ملايين و282 ألف دينار، ووقوع تجاوزات إدارية وقانونية أخرى استدعت تحويل القضية إلى النيابة العامة. ووجّه المُدّعي العام الاتهام إلى رئيس الاتحاد العام للنقابات وإلى ابنه، رئيس نقابة البلديات، وعدد آخر من المتهمين بجنايات استثمار الوظيفة، وجنايات الاختلاس والتزوير، وجناية تزوير انتخابات الهيئة الإدارية لنقابة البلديات، وتزوير محاضرها.

قضية الفساد التي كشفت عنها تحقيقات هيئة النزاهة، ما كانت لتقع لولا حالة التعفّن والركود التي يعاني منها الاتحاد العمّالي منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي

جزيرة معزولة
رغم التزام قيادات النقابات العمّالية، وغيرها من الدوائر ذات الصلة بالحركة العمّالية، الصمتَ تجاه هذه التطورات، باستثناء كتلة الوحدة العمّالية التابعة لحزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد)، التي طالبت في هذه المناسبة بتصويب مسيرة الاتحاد العام، وإعادة النظر في القوانين والأنشطة الناظمة للحركة العمّالية، بما يكفل استعادة دورها.. نقول، رغم التزام القيادات النقابية العمّالية الصمت، إلا أنّها في أروقتها الداخلية وجلساتها الخاصة تجاهر بلوم السلطات الحكومية المُختصّة على سكوتها الطويل، على ممارسات الفساد والاستحواذ والتزوير، التي سادت الاتحاد العام، ونقاباتٍ عديدة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
ومهما كان شكل مُساءلة الرئيس السابق للاتحاد عن التهم الجنائية المُوجّهة إليه، وبغض النظر عن نتائج هذه المُساءلة، فإنّ السؤال: من يتحمّل مسؤولية الضرر البليغ الذي لحق بمكانة (وسمعة) الاتحاد العام لنقابات العمّال، أقدم منظّمات المجتمع المدني الأردني، والمنظّمة الأكثر تأثيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية؟ بل من يتحمّل مسؤولية الضرر الذي لحق بسمعة الأردن وموقعه، إن على صعيد مؤشّر الفساد العالمي أو على صعيد التزامه بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والفشل في تحقيق أبسط المعايير الدولية الخاصة بحرّية النقابات واستقلالها؟ وممّا يُذكر أنّ الرئيس السابق للاتحاد العام للنقابات كان يشغل مناصب قيادية عديدة في المؤسّسات الأردنية والعربية والدولية، فهو يمثّل الاتحاد في مجلس إدارة مؤسّسة الضمان الاجتماعي، وفي قيادة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني. وعلى الصعيد العربي، فإنّه كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة منظمّة العمل العربية، بل إنّه انتخب في مطلع هذا العام رئيساً للاتحاد العربي للنقابات العمّالية، فماذا تقول الأوساط الرسمية الأردنية لكلّ هذه الأطراف عن صمتها الطويل عن النقابي المُخضْرَم الذي امتهن سمعة الاتحاد العام للنقابات، بل وسمعة بلاده عموماً؟
بيد أن قضية الفساد التي كشفت عنها تحقيقات هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، أخيراً، وأدّت إلى الملاحقة القضائية لرئيس الاتحاد ونقابة التعليم الخاص، ما كانت لتقع لولا حالة التعفّن والركود التي يعاني منها الاتحاد العمّالي منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ بداية عملية الانفتاح السياسي التي عرفها الأردن في حينها، والتي استثنت منظّمات الحركة العمّالية، بل وتركتها أقرب ما تكون إلى "الجزيرة المعزولة" عن التطوّرات السياسية والتحوّلات الاقتصادية الاجتماعية، التي عرفها الأردن في العقود الثلاثة الأخيرة.

أدّى تعطيل الحياة الديمقراطية في مؤسسات الاتحاد، والافتقار إلى الانتخابات التنافسية الدورية الحرّة، إلى تأبيد القيادات المُخضرمة على رأس النقابات العامة والاتحاد العام نفسه

التدخّل الحكومي واستقلالية العمل النقابي
ورغم واقعة الفساد في الاتحاد العمّالي تبدو كما لو أنّها ظاهرة فردية معزولة، تخصّ رئيس الاتحاد وابنه، رئيس نقابة عمّال البلديات، وبعض الأفراد المتورّطين مباشرة في التجاوزات المالية والإدارية والقانونية، إلا إنّها، في الواقع، مُحصّلة حتمية للأوضاع التي يعيشها الاتحاد العام لنقابات العمّال خلال العقود الثلاثة السابقة. وتتمثل، أولاً، في استمرار مازن المعايطة رئيساً للاتحاد العام لنقابات العمّال أزيد من ربع قرن (منذ 1998)، ولولا كفّ يده عن هذا المنصب، التطوّر الذي قطع دورة قيادته الأخيرة، لواصل دوره حتّى 2027، وهي نهاية الدورة الحالية للاتحاد (2022 – 2027). أي أنّه كان سيقود الاتحاد ثلاثة عقود متتالية. أمّا قيادته نقابات العاملين في التعليم الخاص فتعود إلى 1992، أي 31 عاماً. والواقع أنّ التجديد القيادي، عن طريق التزكية أو الانتخاب الشكلي، جرّاء عدم وجود مُرّشح آخر، كما هو حال انتخاب مازن المعايطة رئيساً للاتحاد، لم يكن أمراً استثنائياً، بل بات هو السمة الأبرز لانتخابات النقابات العمّالية، التي افتقرت شيئاً فشيئاً تقاليدَ الانتخاب التنافسية، بين قوائم متعدّدة بصورة حرّة.
لقد أدّى تعطيل الحياة الديمقراطية في مؤسّسات الاتحاد، والافتقار إلى الانتخابات التنافسية الدورية الحرّة، إلى تأبيد القيادات المُخضرمة على رأس النقابات العامة والاتحاد العام نفسه، وهو الأمر الذي شجّع على ظهور أمراض التسلّط والتفرّد، واستغلال المواقع القيادية للمنافع الشخصية، بل تحويلها، في بعض الحالات، إلى "مزارع عائلية"، وصولاً إلى استثمار الوظائف القيادية للإثراء والانتفاع غير المشروع. ومن المستهجن أن هذه الظواهر السلبية ظلت تتكرّر وتتفاقم تحت سمع السلطات الحكومية وبصرها، سيّما وزارة العمل وديوان المحاسبة وأجهزة "الدولة العميقة"، فضلاً عن اللجان البرلمانية الخاصة بالعمل، من دون أن تجد صدّاً أو مساءلة قانونية أو عقاباً.

تقتصر عضوية الاتحاد العام لنقابات العمّال حالياً على ما لا يتجاوز 115.533 عاملاً، من أصل 1.838.660 عاملاً أو مُستخدَماً

ثانياً، وضعية الاتحاد العام الحالية هي مُحصّلة للتدخلات الحكومية منذ 1974، والتي أدّت إلى حصر عدد النقابات العمّالية في 17 نقابة عمّالية، من دون السماح بإنشاء نقابات عمّالية أخرى، منذ ذلك الحين، رغم أنّ القوى العاملة الأردنية قد تضاعفت عددياً وتنوّعت مهنياً، بفعل التطوّرات الاقتصادية التي عرفها الأردن والعالم في العقود الخمسة الأخيرة. ومن المثير للاستهجان أن أصحاب العمل يتمتّعون بنحو مائة هيئة تمثّل مصالحهم، حسب تعداد أجراه مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية، بينما تحرم فئاتٌ عمّالية عديدة من حقوق التنظيم النقابي.
ويذكر هنا، أنّه رغم أنّ قانون العمل الأردني الساري ينصّ في المادة 97 على حقّ عمّال أيّ مهنة بتأسيس نقابة خاصة بهم، وحقّ الانتساب إليها، إلا أنّ الفقرة أ من المادة 98 اشترطت للتمتّع بهذا الحقّ أن يكون عدد العاملين اللازم لتأسيس نقابة، خاصّة بهم لا يقل عن 50 عاملاً في الصناعة أو النشاط الاقتصادي الواحد أو الصناعات أو الأنشطة المماثلة أو المرتبطة ببعضها بعضاً. وهو الشرط الذي يحرم عمّال المؤسّسات الصغيرة من تأسيس نقابات خاصّة بها.
الأنكى من ذلك، التعديل الذي أُدخل على المادة 84 من قانون العمل لسنة 1960، في 1974، وينصّ على منح وزير العمل حقّ إصدار قرارات من وقت إلى آخر، لتصنيف المهن والحرف والصناعات التي يحقّ لعمّالها تكوين نقابات. ورغم أنّ هذا التعديل قوبل برفض غالبية النقابات العمّالية في حينها، إلا أنّ هذا التعديل ما زال قائماً، وهو ما يُفسّر استمرار عدد النقابات على حاله، بعد إعادة تنظيمها، عام 1974، أي 17 نقابة فقط، رغم مرور 50 عاماً على ذلك القرار (!) جرّاء ذلك لم تعد الحركة العمّالية، المُنظّمة في النقابات السبع عشرة، والمنضوية تحت لواء الاتحاد العام للنقابات، تعكس واقع الطبقة العاملة الأردنية، ولا تمثّل فئاتها المهنية والصناعية المتعدّدة الذين يعملون مقابل أجر، إذ تقتصر عضوية الاتحاد العام حالياً (2023) على ما لا يتجاوز 115.533 عاملاً، من أصل 1.838.660 عاملاً أو مُستخدَماً. أي فقط 6.3% من إجمالي القوى العاملة الأردنية.

الخطوة الأولى في طريق إصلاح الحركة النقابية العمّالية هي إعادة الاعتبار إلى الانتخابات الدورية الحرّة في مختلف مؤسّسات الاتحاد العام

ثالثاً، أدّى وضع نظام جديد للاتحاد العام لنقابات العمّال في المؤتمر العام الخامس للاتحاد، عام 1994، إلى إضعاف سلطتي كلّ من المؤتمر العام للاتحاد والمجلس المركزي، وأدّى، في المقابل، إلى تعظيم دور اللجنة التنفيذية للاتحاد. كما رافق ذلك فرض "نظام أساسي موحّد" على النقابات السبع عشرة، بدلاً من ترك أمر التنظيم الداخلي لكلّ نقابة لهيئات تلك النقابة، وهو الأمر الذي أدّى إلى الحدّ من استقلالية النقابات، وبسط هيمنة بيروقراطية صارمة لقيادة الاتحاد على عموم مؤسّسات الحركة العمّالية الأردنية.
تجلّت عواقب هذه التطورات، سنة بعد أخرى، في "تبقرط" الحركة العمّالية وتراجع أدائها القيادي، وتوسّع الهوة بين الاتحاد العام والقواعد العمّالية، وانكفاء الأجيال الشابّة من العمّال عن التنظيم النقابي.
رابعاً، حصر المادة 44 من قانون العمل حقَّ المفاوضة الجماعية في النقابات العُمّالية القائمة، أي السبع عشرة، في الوقت الذي ترفض فيه فتح الباب أمام ممارسة حرّية التنظيم النقابي، وإنشاء مزيد من النقابات (أدّى هذا الى إضعاف قدرة الطبقة العاملة الأردنية على ممارسة حقّها في المفاوضة الجماعية الرامية لتحسين أوضاعها المعيشية. ويظهر ذلك واضحاً عند مقارنة عدد العمّال والمُستخدمين من الاتفاقيات الجماعية المُبرمة مع حجم القوى العاملة الفعلي).

خلاصة عامة
تستحقّ الطبقة العاملة الأردنية، وهي تحتفل بمرور 70 عاماً على تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمّال، أن تتمتع بثمار كفاحها الطويل، من خلال استعادة استقلالية منظّمتها النقابية الرئيسية، وتحريرها من البيروقراطية والجمود، واستئناف مسيرتها قوّةً فاعلةً في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا يتطلب مراجعة وتعديل قانون العمل الأردني، سيّما المواد التي تتعلق بحرّية التنظيم النقابي، وإزالة تلك المواد التي تسمح بتقييد حقوق التنظيم النقابي أو حصره في عدد محدّد من النقابات. وكذلك إلغاء "النظام الأساسي المُوحّد" للاتحاد العام، والذي يقيّد استقلالية النقابات، ويحدّ من حقّها في تنظيم شؤونها الداخلية. الخطوة الأولى في طريق إصلاح الحركة النقابية العمّالية هي إعادة الاعتبار إلى الانتخابات الدورية الحرّة في مختلف مؤسّسات الاتحاد العام، وفي جميع النقابات العمّالية، ووضع ضوابط قانونية لضمان التعاقب والتجديد القيادي في هذه النقابات، ما يحول دون التكلّس والاستفراد القيادي بالمؤسّسات النقابية، الذي يفتح أمام ظواهر الفساد واستغلال الوظيفة العامة، ويحول دون تجديد دماء القيادات النقابية ويحرم الأجيال النقابية الشابّة من فرص المُشاركة الإيجابية في تسيير نقابتها.

63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني