ماذا يجري في النيجر؟

09 اغسطس 2023

أحد قادة الانقلاب في النيجر محمد تومبا في مظاهرة تأييد في نيامي (6/8/2023/الأناضول)

+ الخط -

تعيش النيجر، منذ 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) على صفيح ساخن يهدّد بإشعال منطقة الساحل الأفريقي، منذ احتجز رئيس الحرس الجمهوري في البلاد رئيسه المنتخب وأعلن الجيش استيلاءه على السلطة. بدا الأمر، في البداية، كما لو أنه انقلاب عسكري مثل الانقلابات التي تشهدها دول أفريقية عديدة، وخصوصا في منطقة الساحل، واختلفت التفسيرات إن كان الأمر مجرد "انقلاب قصر" قاده رئيس الحرس الرئاسي بسبب خلاف مع رئيسه، أم أنه انقلاب عسكري بعد انضمام قيادة الجيش له وتأييد انقلابه. كما أن ردود الفعل التي صدرت في البداية كانت منتظرة، خصوصا من القوى الأجنبية التي دانت الانقلاب، وهدّدت بقطع علاقاتها مع النيجر وتعليق مساعداتها له، أو من الاتحاد الأفريقي الذي ينصّ ميثاقه على تعليق عضوية أي بلد أفريقي يلجأ إلى تغيير السلطة بطريقةٍ غير ديمقراطية. والحال أن الرئيس المحتجز جاء إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، لكن القادة الأفارقة عوّدونا أنهم لا يَلْبَثُونَ إلا قليلا، حتى يتراجعوا عن قرارهم ويقبلوا بالأمر الواقع ويطبّعوا مع الانقلابات، كما جرى مع مصر والسودان ومالي وبوركينا فاسو.

ولكن، لماذا بدا في البداية أن انقلاب النيجر لا يشبه الانقلابات الأخرى التي عصفت بدول غرب حزام الساحل في السنوات الأخيرة؟ اختلف عن سابقيه منذ وقوعه، خصوصا عندما هدّدت الدول المجاورة للنيجر بشن حرب لإفشاله، وأعلنت دول أخرى رفضها التام كل تدخل في شؤون البلد، في شبه تأييد لضمان نجاحه. وحتى على المستوى الداخلي، بعد تظاهر مئات في بداية الانقلاب للمطالبة بالإفراج عن الرئيس المنتخب، قلب تأييد قيادة الجيش له الكفّة، وخرج الآلاف للتظاهر ضد التدخّل العسكري، وهو ما جعل أصوات مؤيّدي الانقلاب تعلو على كل صوتٍ يطالب بعودة النظام الديمقراطي، أو هكذا يبدو لنا من بعيد!

نجاح الانقلاب يعني للولايات المتحدة وفرنسا توفير قاعدة كبيرة لتوسّع عمليات "فاغنر"، وملاذ آمن للجهاديين في قلب غرب أفريقيا، وتشجيعا للأنظمة العسكرية الموالية لروسيا في المنطقة

زاد الطين بلة تهديد دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بتدخّل عسكري لإعادة الحكم المدني إلى النيجر، وحدّدت مهلة لإنذارها، ما جعل المنطقة تعيش على وقع الانفجار، وهو ما لم تفعله عندما حدثت انقلابات داخل دول تابعة للمجموعة نفسها، آخرها انقلابا بوركينا فاسو ومالي. وبالرغم من أن المهلة انتهت من دون أن تنفذ المجموعة، المسنودة من فرنسا والولايات المتحدة، تهديدها، إلا أن تهديدها، في حد ذاته، أوجد أزمة أخرى أكبر، تمثلت في الاصطفاف الحادّ الذي أحدثه بين دول المنطقة ما بين مؤيد للتدخّل العسكري ومعارض له، بل ويعتبره بمثابة "إعلان حرب" عليه، وهذا هو موقف كل من بوركينا فاسو ومالي، ومعهما الجزائر التي حذّرت من عواقبه الكارثية على المنطقة برمّتها.

خطورة انقلاب النيجر، الذي ما زالت أسبابه غامضة، أنه يحدث في بلدٍ فيه أهم وجود عسكري غربي في أفريقيا الغربية، حيث النيجر بمثابة قاعدة عسكرية للولايات المتحدة وفرنسا تنطلق منه عملياتهما في حربهما ضد ما تسمّيانه "الإرهاب"، وأيضا في مواجهة خطر التمدّد الروسي في المنطقة عبر مليشيات فاغنر التي تنشط في المنطقة. وفي سياق خوفها من فقدان هذه القاعدة العسكرية المهمة، ضغطت كل من باريس وواشنطن على المجلس العسكري في النيجر، عبر تعليق كل تعاون أو تنسيق عسكري وأمني معه، وسارعت إلى ترحيل رعاياها وإخلاء جزءٍ من مقارّها الرسمية في البلاد، وهدّدت بتعليق مساعداتها الاقتصادية للبلد، والتي تمثل نحو 40% من ميزانيته السنوية، فنجاح الانقلاب يعني بالنسبة للولايات المتحدة وفرنسا توفير قاعدة كبيرة لتوسّع عمليات "فاغنر"، وملاذ آمن للجهاديين في قلب غرب أفريقيا، وتشجيعا للأنظمة العسكرية الموالية لروسيا في المنطقة.

الخاسر الأكبر مما يجري في النيجر، نجح الانقلاب أو تم التوصل إلى تسوية تعيد الهدوء إلى البلد، هو النفوذ الفرنسي

لكن، وبعيدا عن الحسابات الأمنية والعسكرية والجيوستراتيجية لباريس وواشنطن، فإن نجاح الانقلاب في النيجر يعني سقوط آخر نظام ديمقراطي في المنطقة، وهو ما يجعل حزام الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية انقلابية أو متأتّية عن انقلابات يمتد من السودان حتى موريتانيا. ما سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والاضطرابات وعدم الاستقرار، وما يتبع ذلك من انعكاسات سلبية، بل وكارثية، على سكان دولها الذين يعانون أصلا من الفقر والجوع. وفي المقابل، في حالة واجه التدخّل العسكري لإعادة النظام الديمقراطي إلى البلد مقاومة شعبية، فقد يؤدّي هذا إلى سقوط الدولة في النيجر وانهيارها، وقد يحوّل المنطقة إلى بؤرة فوضى وتوتر شاسعة تمتد إلى دول أخرى، تنضاف إلى الحرب المشتعلة في السودان، ما سيضاعف من المآسي الإنسانية في المنطقة ومن تضخّم صفوف اللاجئين داخل أكبر حزام للفقر في القارّة السمراء.

وفي كل الحالات، كلما استمرّ الوضع كما هو عليه ازداد تعقيدا، ففي حالة بقاء الانقلابيين وتمسّكهم بالسلطة فذلك سيفرض عقوباتٍ على النيجر، وهو ما سوف تكون له عواقب وخيمة على السكان وعلى استقرار البلاد. كما أن إعادة تثبيت الرئيس المحتجز لن تؤدّي سوى إلى تكرار التجربة، لأن قادة الجيش لن يقبلوا به رئيسا عليهم، بعدما أطاحوه، وهو ما سيدفعهم إلى إعادة الكرّة. ويبقى الحل الأمثل العودة إلى المسار الدستوري بصيغة أو أخرى، لكن هذا لن يحدث إلا باتفاقٍ مع قادة الجيش للعودة إلى ثكناتهم، والتزامٍ من الرئيس المنتخب في حال عودته الرمزية، بالدعوة إلى انتخابات جديدة يكون موضوعها الحدّ من النفوذ الفرنسي في البلاد، والمطالبة بإعادة صياغة علاقات تعيد التوازن إلى العلاقات بين النيجر وفرنسا. لأن الخاسر الأكبر مما يجري، نجح الانقلاب أو تم التوصل إلى تسويةٍ تعيد الهدوء إلى البلد، هو النفوذ الفرنسي الذي أصبح مستقبل وجوده في غرب أفريقيا ووسطها محلّ شك، وبمثابة المشجب الكبير الذي تعلق عليه كل أنواع المشكلات التي تعاني منها المنطقة التي تعيش الفقر والتغيرات المناخية، وتصاعد التشدّد الإسلامي، والتمدّد الروسي، وهو ما يفسّر تنامي مشاعر الكراهية ضد فرنسا في دولها التي شهدت انقلابات عسكرية.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).